كشفت الوثائق الرسمية لما عرف بقضيّة عصابة الحرّاقة، والتي أصدرت فيها المحكمة أحكاما تراوحت بين العشرين والأربعين سنة سجنا ضد المتهمين وخطابا ب 200 ألف دينار، أن عدد الناجين لم يتجاوز 13 شخصا من أصل 30 حارقا. وحسب الوثائق، فإن المتورّطين هم ستة أشخاص يتزعمهم شخص من مواليد سنة 1960 وهو بحالة فرار. وقد وجّهت اليهم دائرة الاتهام تهم المشاركة في وفاق وتكوين تنظيم يهدف الى إعداد وتحضير وارتكاب أفعال الارشاد والتدبير والتسهيل والمساعدة والتوسّط والتنظيم لمغادرة أشخاص خلسة بحرا للتراب التونسي وإيواء الاشخاص المغادرين وتخصيص مكان لذلك وتوفير وسيلة نقل لارتكاب الجرائم المذكورة ونقل أشخاص لغاية اخراجهم من التراب التونسي خلسة طبق أحكام الفصول 38 و39 و40 و41 من القانون عدد 6 لسنة 2004 المؤرّخ في 3 فيفري 2004 والمتعلق بجوازات السفر ووثائق السفر. بداية الحكاية انطلقت القضيّة، بعد ورود معلومات لفائدة ادارة الابحاث والتفتيش للحرس الوطني يوم 20 جانفي 2009 مفادها اشتراك مجموعة من الاشخاص في تنظيم عملية تهريب أشخاص عبر البحر خلسة باتجاه ايطاليا انطلاقا من شاطئ قمرت على متن مركب صيد على ملك امرأة. ووفقا لملفات القضية، وحسبما ذكر أحد المتهمين في تصريحاته أنه سبق وأن سافر خلسة الى ايطاليا سنة 2002 الا أن السلطات الأمنية الايطالية رحلته الى تونس فاشتغل بأعمال مختلفة، إلا أن فكرة الابحار خلسة والرجوع الى ايطاليا ظلت تراوده ولم يستطع التخلّص منها، لذلك اتصل بالمتهم الرئيسي، في هذه القضية، وهو معروف في جهة المرسى بنشاطه في مجال تهريب الراغبين في الهجرة السرية، وقد سبق له ان تمكن من ترحيل وتهريب العديد من الشبان في العديد من المناسبات وعرف بقدرته على انجاز ذلك. وقال المتهم، ما إن أسرّ له برغبته في «الحرقة» حتى وافقه وطلب منه توفير مبلغ مالي، فمكّنه منه، إلا أنه بعد فترة ألقي القبض على منظم رحلات «الحرقة»، ولم يف بوعوده، فبقي ينتظره الى حين خروجه من السجن، وتبيّن أن عددا من الاشخاص كانوا أيضا سلموه مبالغ مالية تراوحت بين 1200 دينار و2000 دينار لقاء تمكينهم من «الحرقة». من رحلة السجن الى رحلة الموت بعد أن خرج منظم الرحلات من السجن، اتصل به عدد من «حرفائه»، فابلغهم بأنه سوف ينظم رحلة سرية قريبا، وبعد مدّة اتصل بهم هاتفيا وطلب منهم الحضور وتم اللقاء قرب غابة ڤمرت، وطلب منهم الاختفاء الى حين حضور المركب. بعد فترة قصيرة أطلّ مركب صغير، اتفق المنظم مع صاحبه على أن يتولّى مهمّة الربان وذلك وفق ترتيب مسبق. ظلّ الشبان في الانتظار، وفي حدود منتصف الليل بان في البحر مركب صيد وجاءت الاشارة من منظّم الرحلة وشركائه، بأن الموعد قد حان. قفز الجميع في الماء متجهين الى المركب الا أربعة تراجعوا، اذ رأوا أن المركب لا يمكن ان يستوعب العدد، وهو ثلاثين شابا، فيما أصرّ الباقون، أي ستة عشرون على المغامرة في مركب بالكاد يتسع لاقل من نصفهم. انطلقت الرحلة سرّا، وسط بحر يلفّه الظلام من كل الاتجاهات، كان الجميع يأمل ويحلم في الاقامة في أوروبا والفوز بشغل يضمن المستقبل ويمكّنه من مساعدة عائلاتهم ويخلّصهم من حالة الضياع والتيه والفقر. نهاية البداية بعد أكثر من ميلين في البحر، بدأت المياه تتسرب شيئا فشيئا الى المركب، من ثقب على الجانب الأيمن، وبدأ يتمايل عندها اتصل الربان بمنظم الرحلة فطلب منه العودة، استدار الربان وظل يقاوم ارتباك مركبه وتمايله وسط ظلمة المكان وبرودة الطقس الشديدة، وكانت المياه تتدفق الى الداخل الى أن انقلب رأسا على عقب، فارتمى الشبان وسط المياه وكانوا يستدلّون بأضواء احد المساجد الواقعة في مرتفع المرسى. تمكّن البعض منهم من النجاة بعد ساعات من السباحة وسط مياه باردة جدا وبحر مضطرب، فيما لم يقدر الباقون على السباحة، اذ تجمد جلهم واستلموا لقدرهم المحتوم واسلموا الروح غرقا وسط مياه المتوسط التي ابتلعت الآلاف مثلهم أملا في حياة أفضل، إذ يرفع بعض الحارقين شعار «السمك أفضل من الدود» في اشارة الى أن الموت بحرا أفضل من الموت أرضا. جثث شبان حالمين مات، من مات من الشبان، وتدخّل أعوان الجيش الوطني والحرس البحري وأنقذوا البعض منهم، وتم انتشال بعض الجثث وبقايا المركب، وتم إبلاغ ممثل النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس الذي عاين بعض الجثث وأذن برفعها ونقلها لعرضها على مخابر الطب الشرعي، كما أذن بالقيام بكافة الابحاث والتحقيقات اللازمة للكشف عن هويات المتهمين من منظمي الرحلة عن كل ملابسات القضية. واصل البحر خلال الايام اللاحقة لواقعة الغرق لفظ جثث بعض الشبان الغارقين، وكانت، حسب تقارير الطب الشرعي شديدة التعفن وتم التعرف على بعضها بواسطة التحليل الجيني. ألقى المحققون القبض على بعض المتهمين فيما تمكن اثنان من التحصّن بالفرار، وهما المتهم الرئيسي وأحد الوسطاء، وقد اعترف الموقوفون أثناء التحرير عليهم بالوقائق المادية للحادثة لكنهم أنكروا اتهامهم بالمشاركة في تنظيم رحلة الموت. أحيل المتهمون على أنظار أحد قضاة التحقيق الذي اصدر ضدّهم بطاقات إيداع بالسجن بعد أن وجه إليهم جملة من التهم المتعلقة بتكوين وفاق وتنظيم رحلة خلسة لتهريب أشخاص.. وقد أيدت دائرة الاتهام بمحكمة الاستئناف بتونس قرار ختم البحث الصادر عن قاضي التحقيق وقرّرت إحالة المتهمين كل حسب الحالة التي هو عليها، وكان أحدهم بحالة سراح، على أنظار الدائرة الجنائية المختصّة لمقاضاتهم من أجل ما نسب اليهم. المحاكمة مثل المتهمون أمام هيئة الدائرة الجنائية الرابعة بمحكمة تونس الابتدائية إذ تمسّك كل منهم بما كان قد صدر عنه من تصريحات لدى قاضي التحقيق ونفى كل منهم ما نسب اليه من تهم متعلقة بالمشاركة في تنظيم رحلة الموت ولكنهم اعترفوا بمحاولة الابحار الى ايطاليا. دافع عنهم المحامون وطلب ممثل النيابة العمومية المحاكمة طبقا لنصوص الإحالة وفصولها القانونية، فرأت المحكمة بعد أن استمعت الى كافة أطراف القضية حجزها للمفاوضة والتصريح بالحكم لتصرّح بثبوت إدانة المتهمين وسجن المتهم الرئيسي وشريكه لمدّة أربعين عاما مع ثلاثين عاما لبعض المتهمين و20 عاما لأحد المتهمين، وخطايا مالية لكل واحد منهم بلغت 200 ألف دينار.