عرفنا في بداية تكويننا الثقافي والعلمي اسم العالم الموسوعي الكبير فؤاد أفرام البستاني عن طريق سلسلة «الروائع» التي كان يُعَرِّفُ فيها بالشعراء والكتاب والعلماء والأدباء العرب من الجاهلية إلى العصر الحديث، ثم عرفته بعد ذلك عن كثب في الجامعة اللبنانية ببيروت، عندما كان رئيسا لها، وكانت له محاضرات ودروس يلقيها على طلبته، ولم يكن يتقيد فيها بموضوعها الأساسي بل يتوسع توسعا محمودا ويفتح أقواسا تفضي إلى أقواس، وقد بقي منها في الذاكرة الشيء الكثير في شتى المواضيع الخارجة من عناوينها الأساسية، من ذلك أنه تَعَرّض مرة إلى النِّحلة (البهائية) المزعومة تعرضا علميا يمكن أن يجده من يريد أن يعرفه في كتب الأعلام وفي دوائر المعارف، وما زلتُ أذكر أنه أشار يومئذ، إشارة طريفة إلى زعيمها عبد البهاء وقال عنه، (إن جبران خليل جبران كان سبب شهرته في أمريكا، وذلك أنه رسمه رسما جميلا، فتعلقت به كثير من النساء الأمريكيات واعتنقن دعوته أو ما دعاه دينا)، ولعل كلمته هذه لم تكن لِتعلقَ بذاكرتي لو لم أكن قد عرفت من أتباعه اثنين من تونس التحق بهما اثنان: أخ وشقيقته من مصر في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، ولم تكن لي صلة إلا بواحد من الأوّليْن لإشرافه على حصة أدبية كان يذيع فيها ما يصله من محاولات (الأدباء الهواة) بالإذاعة التونسية عندما كنت في بداية عهدي بكتابة الشعر، ثم توطدت علاقتي به بعد ذلك وعرفته معرفة ثقافية، ورغم ذلك فإنه، للحقيقة والتاريخ، لم يحدثني عن هذا «الدين»، ولم يحاول جذبي إليه، وقد صار يفخر، عندما أصبحت معروفا في عالم الأدب، بأنه أول من قدم شعري إلى المستمعين. ثم مرت عقود كثيرة على ملاحظة البستاني المتعلقة برسم جبران الذي كان سببا في شهرة زعيم البهائية، وقد قفزت إلى ذاكرتي تلك الملاحظة، عندما كنت أقرأ رسالة كتبها جبران إلى صديقته الأمريكية (ماري هسكل) منشورة في كتاب (من وحي رسائل جبران المجموعة الأولى اختارها وترجمها بتصرف إميل خليل بيدس) وهي مؤرخة في 19 نيسان (أفريل) 1912. ومن خلالها نفهم أن جبران قد نام مهموما ليلة ذلك اليوم تحت كابوس من جراء ما حل بسفينة «تيتانيك» التي غاصت في البحر قُبيل كتابة تلك الرسالة بخمسة أيام، واستفاق على ذلك الكابوس الذي سماه المترجم ضاغوطا. وهذه هي الرسالة بتاريخ 19 نيسان «أفريل» 1912 (قبيل الفجر، داعب جفني الوسنُ. الهواء متشرِّبٌ برائحة المأساة. «التيتانيك» التي غاصت في اليَمِّ بما تحمله من بشر.. نغّصني الفِكرُ، ورمضتني الكارثة – هؤلاء الأبرياء – ذرفتُ الدمع الهتون. نهضت في السادسة وضاغوط الكارثة لا يفارقني.. ولكن الاغتسال بالماء البارد، ثم فنجان القهوة فرّجا عن مخنقي). وانتقل جبران إلى الحديث عن رسم عبد البهاء، فذكر الوقت الذي بدأ فيه رسمه والوقت الذي انتهى فيه منه، وإلى الحاضرين والحاضرات بصفة خاصة، وذكر الانطباع الذي خلفه رسمه في نفس صاحبه ونفوس أتباعه وفي نفس جبران أيضا فقال: (في السابعة والنصف كنت مع عبد البهاء، رئيس البهائيين في بلاد فارس. في الثامنة بدأنا العمل. وتوافد الناس وجُلّهم من النساء. جلسوا خاشعين ينظرون بعيونٍ لا تَطْرِفُ. في التاسعة اكتمل الرسم وابتسم عبد البهاء. ما هي إلا كفتحة عينٍ وغمْضتِها حتى أقبل عليَّ الحاضرون باندفاع عجيب، هذا يهنِّئُني، وهذا يشد على يدي – كأنني أسديتُ لكل واحد خدمة – وهذا يقول: معجزة! هبط الوحْيُ عليك! وذاك يقول: اكتشفتَ روحَ المعلم! كلٌّ قال كلمته.. وقال هو باللسان العربي: «الذي يعمل مع الروح لا يفشل، فيكَ قوَّةٌ مستمَدّةٌ من الله!» واستدرَك: «الأنبياء والشعراء يرتوون من نور الله!» وتبسّم ثانية – وكانت في بسمته قصة عاصفة، قصة سوريا وبلاد العرب وبلاد فارس. أتباعه أحبّوا الرسم لأنه صورة كالأصل.. وأنا أحببته لأنه تعبير عن الناحية الأفضل مني. جفوني ثقيلة، الكرى أثقلها. أتكفيني ساعاتٌ ثلاث؟ أنام فيها وأستعيد القوة المبددة؟! «خليل» ومن خلال هذه الرسالة تأكدت أن أستاذنا البستاني قد كان على علم بهذا الرسم الذي رسمه جبران لعبد البهاء، وأن ما قاله لنا في درسه صحيح، أما أنه كان سببا في شهرته فهذا يحتاج إلى ما يؤكده. وقد كتب جبران رسالة أخرى إلى (ماري هسكل) في 16 أياّر(ماي) 1912 أي بعد أقل من شهر من كتابة الرسالة السابقة، تحدث فيها مرة أخرى عن عبد البهاء فقال: (عاد عبد البهاء إلى نيويورك منذ أيام قليلة. أقامت له لجنة السلام النسائية حفلة كبرى في فندق أستور، تكلم عدد من الخطباء، وكان السلامُ موضوعَ الحديث الذي هطلت به الألسنُ. السلام... السلام... السلام الدولي.. العالَمي. شيء مملٌّ، إعادة متعبة، بلا طعم، بلا نكهة، السلام... السلام... ترديد وإعادة.. جرس على وتيرة واحدة. السلام منية الدهور، والدنيا أصغر من أن تبلغ الوطر. أنا أقول: ليكنْ هناك حربٌ! ليستعرِ الأوارُ! ليقتتل أبناء الوطن إلى أن تُسفكَ آخرُ قطرة من الدّم الملوّث! لماذا يهجس الإنسان بالسلام وهو محروم من راحة النفس في نظام يستحق الزوال، بلْهَ محكوم عليه بالزوال). «خليل» وهي رسالة تستحق التأمل والتمعُّن والتحليل، نفهم منها أن جبران لم يكن متأثرا بما يَدَّعيه البهاء وأتباعه في أمريكا خاصة، ويبدو أن أتباعه كانوا مبهورين بهيأته ومظهره وأُبَّهَتِهِ وببهجته وبالرسم الذي وضعه له جبران أكثر من إعجابهم بما يدعو إليه من نِحلة أو دين، وأما دعوته إلى السلام في ذلك الاجتماع التكريمي لصاحبه، فهو شعار خلاب يجلب الجميع، لكن الكلام الذي كانوا يرددونه، كان اجترارا باردا غير مقنع أو مؤثِّر لشعار مبهر. والملاحظ أن جبران قد أبدى في رسالته رأيا غريبا حول الحرب والسلام يحتاج إلى نقد ومناقشة وَرَدٍّ لمعرفة أسبابه ودواعيه. وأرجو أن أعود مرة أخرى إلى كشف أسرار البهائية التي لم ترق حتى لجبران المسيحي.