في أواخر سنة 1955 أصدر الباي محمد الأمين ملك تونس آنذاك أمرا عليا (يوازي القانون بوصف الملك كان يجمع آنذاك بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية) بدعوة الناخبين (الذكور فقط) لاختيار أعضاء مجلس تأسيسي يتولى صياغة دستور « للمملكة التونسية» على أساس ملكية برلمانية. كان وراء اصدار ذلك القانون الحزب الحر الدستوري الذي قاد الكفاح الوطني ونال الاستقلال الداخلي للبلاد، كما كان وراءه رئيس الحكومة آنذاك الطاهر بن عمار الذي كان يتصور دستورا قائما على: الشكل الملكي للدولة الصبغة البرلمانية للحكم الممارسة الديمقراطية وفقا لتصريح مشهود أدلى به بالمناسبة رئيس الحكومة آنذاك الطاهر بن عمار. تم بعد أسبوع على الاستقلال في 20 مارس1956 انتخاب مجلس تأسيسي كل أعضائه من حزب الدستور أو على الأصح مما سمي بالجبهة القومية التي ضمت وقتها الى جانب الحزب المنظمات القومية (اتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة واتحاد المزارعين). وقضى المجلس التأسيسي 3 سنوات قبل صياغة الدستور الذي تم الاعلان عنه في 1 جوان 1959. و قد تأخرت بداية تحرير الدستور بسبب ما ارتآه زعماء تلك الحقبة من ضرورة تعويض الشكل الملكي للدولة بالشكل الجمهوري. لم يكن يعلن ذلك صراحة سوى السيد الهادي نويرة، أما الرئيس الحبيب بورقيبة (والذي سيعين رئيسا للحكومة في أفريل 1956) فانه كان يعد العدة ببطء للسيطرة على دواليب الدولة حتى يتمكن من ذلك التغيير في شكل النظام. وقد استقام له الأمر في منتصف سنة 1957، فقد سيطر لا فقط على الادارة بما فيها قوى الأمن، وأنشأ جيشا وفيا له بل أتم تحييد الباي ونزع عنه كل وسائل وأدوات أي رد فعل.. واذ اعتبر فقهاء القانون الدستوري لاحقا، التوجه نحو تعويض النظام الملكي بنظام جمهوري أمرا غير شرعي، باعتبار أن الدعوة لصياغة دستور التي كان الباي هو الذي أطلقها، قد حددت شكله بنظام ملكي برلماني، فان فقهاء القانون الدستوري اعتبروا أن ذلك يكتسب مشروعيته من أن البلاد قد استقامت على ثورة غيرت كل المعطيات ونتيجتها الطبيعية هي ازالة نظام ملكي مستضعف حتى النخاع بنظام جمهوري فتي ومستجيب للرغبة الجماهيرية خاصة بعد الحملة ضد الملكية واتهامها بالارتباط بالاستعمار. ومن هنا قام الدستور(دستور 1959)على مشروعية تقطع مع الشرعية التي كانت قائمة والتي كان عمادها الأمر العلي الذي دعا لانتخاب مجلس تأسيسي مهمته المعلنة اقامة نظام ملكي برلماني أساسه ديمقراطي، منبثق من السيادة الشعبية. ولقد أكد لي أحد كبار مسؤولي تلك الفترة أن الرئيس بورقيبة في اجتماع غير رسمي جمعه بعدد من كبار المسؤولين آنذاك كان من بينهم الباهي الأدغم ومحمد المصمودي والبشير زرق العيون وغيرهم في الفيلا التي كان يسكنها الرئيس التونسي في شارع غرة جوان قبل أن ينتقل الى القصر الرئاسي في قرطاج، سأل في لهجة غير بريئة:» ان هذا الدستور الذي تقومون باعداده يبدو وكأنه مفصل على مقاسي، فماذا لو أصبحت يوما وقد أصابني الخرف»، وفيما البعض من الحاضرين يفكر، ربما بحقيقة ما يقصد بورقيبة بسؤاله سارع واحد منهم للقول : «ماذا؟ يمكن أن يصيبنا كلنا الخرف أما أنت السيد الرئيس فلا»، وأغلق الموضوع. وستبرز المراحل اللاحقة أن السؤال بقطع النظر عما كان وراءه، قد أكد أن الرئيس بورقيبة الذي طالت ولاياته بين متجددة ومدى الحياة، والذي فاق حكمه مدة 30 سنة، سيصل الى مرحلة الخرف، وفقدان الرشد، وهو السبب الذي سيعزل من أجله في اطار ما اعتبر في 7 نوفمبر 1987 «انقلابا دستوريا» تولاه رئيس الحكومة زين العابدين بن علي الذي لا ينبغي نسيان أنه جنرال منحدر من الجيش. غير أنه لا بد أيضا من الملاحظة أن الجنرال بن علي لم يحقق انقلابه بواسطة الجيش بل بواسطة قوى الأمن التي سيطر عليها خلال فترة توليه ادارة الأمن، ثم وزارة الداخلية، ثم رئاسة الحكومة لمدة شهر تقريبا. انه انقلاب احتاج الى قوة مسلحة، استعملت فيه أسباب صحية، وارتكز على مبررات دستورية. اذن فان دستور 1 جوان 1959 هو نفسه الذي تم تحويله عن روحه على الأقل مرتين واستعمل في: منتصف السبعينيات لاقرار الرئاسة مدى الحياة التي تتناقض وطبيعة النظام الجمهوري القائم على انتخابات رئاسية دورية، اضافة الى التداول الذي يضمنه عدم تجاوز عدد من مرات الترشح للمنصب الرئاسي. في سنة 1987 عندما استعمل في اطار انقلاب وصف بالدستوري في تحقيق الخلافة بانحرافها عن روحها وان احترم نص الدستور وان اغتصب قاعدته. خلال 52 سنة منذ بدء العمل بالدستور تم تنقيحه 15 أو 16 مرة وفق ما أحصيناه ولعل للاخصائيين أن يقدموا احصائية أكثر دقة. وسنلاحظ أن هذا الدستور ورغم ما يوصف به من صلابة في التعديل قد استعمل ظرفيا، بشكل يتنافى مع طبيعة الدستور. وللمقارنة فان الدستور الأمريكي الذي يعود الى قرابة 220 سنة، قد تم تعديله حوالي 20 مرة، كلها تقريبا في اتجاه تعميق المبادئ والحريات، وليس غالبا في اتجاه ميكانيكيات الحكم. من هنا يحق للمرء أن يتساءل ان بقي الدستور (دستور 1959) متمتعا بمنطق داخلي، وانسجام يمكنه من تحقيق العنصرين الرئيسيين لكل دستور: ضمان الحريات والمبادئ اللازمة للحكم أدوات وآليات الحكم ذات الدواليب الطبيعية اذن هل للمرء أن يتساءل ان لم يكن هناك مفر من التأسيس من جديد بدستور جديد يرتقي الى طبيعة المرحلة بعد ثورة شعبية فرضت شرعية جديدة شرعية ثورية؟ سؤال مطروح الاجابة عنه على كل الشعب الثائر، وخاصة على فقهاء القانون الدستوري؟ وذلك هو موضوع عمودنا المقبل. آخر الكلام: أكثر ما يرعب الكاتب هو أن يحكم النظام المستبد بمنعه من الكتابة، اذ يعني ذلك منعه من التنفس، من الحياة. وبالنسبة لشخص لا يحسن فعل شيء آخر في الحياة، فتلك عقوبة تشبه الاعدام. كاتب صحفي رئيس التحرير الأسبق لصحيفة «الصباح»