وصل الظلم والقهر والاستبداد ببلادنا إلى الحدّ الذي جعل الشباب رمز الأمل ومجدد الحياة ينتحر حرقا ويلغي وجوده الذي فقد معناه. وهذا المشهد ليس جديدا، فقد انتحر آخرون من أحرار تونس قهرا وظلما، انتحار بطيء باحراق السجائر وتدمير الجسد الى حد القضاء عليه ويحضرني مثال المرحوم الكاتب الصحفي الكبير «محمد قلبي»، وقد اشتغلت معه وتعلمت منه أبجدية الصحافة في جريدة «الصباح» في العهد البورقيبي وفي العهد السابق. لم يستسلم هذا الرجل، ولم يتراجع أبدا على مساندة الشعب والتعبير عن مشاغله وهو من أول من ابتكر صفحة الشباب وتكلم عن مشاغلهم. وقبل ذلك كانت «حربوشة» وهذا عنوان العمود الذي كان يكتبه في جريدة «الشعب» وقد لعب دورا كبيرا في ايقاظ الناس ولفت نظرهم الى العديد من المظالم وقد أوقف المقال واضطهد صاحبه... لكنه لم يتوقف، بل واصل وسيجارته في فمه، كان يكتب ودماغه يحترق ودون أن يتفطن إليه أحد، بل يتحمل مضايقات النظام وكذلك زملائه من الصحافيين «الجاثين على ركبهم» وكانت «لمحة» تخرج يوميا ممضاة بقلم «محمد قلبي» المغموس بدمائه، يكتبها مشحونة بغضبه الدفين بآماله الضائعة وطموحاته المحطمة على شواطئ قرطاج... يكتبها لتكون صوتا لمن ألجمت أصواتهم، صوت يقول «لا» بغصة رغم الاختناق بدخان السيجارة العملاقة التي تجسم رمز القمع والاضطهاد... ما أفظع أن يضيع الانسان المبدع دون أن يتفطن إليه أحد، إن ضياع المواهب والذكاء واهداره يمثل خسارة أكبر وأشد من ضياع المال والممتلكات.. إنها جسامة موت الأمل في قلب الشباب.