أولا – ثورة أم انتفاضة ؟ بدأت انتفاضة عند انطلاقها في سيدي بوزيد، رافعة شعارات ذات طابع اجتماعي بالأساس على غرار انتفاضة الحوض المنجمي قبل عامين، ولكن بعد انتقالها إلى المدن المحيطة، ثم في مرحلة لاحقة إلى القصرين، وتالة قبل أن ينتشر الهشيم في جميع ولايات الجمهورية من أقصى الشمال إلى الجنوب، وسقط عشرات الشهداء برصاص زبانية الديكتاتور توارت المطالب الاجتماعية لتعوضها مطالب سياسية كبرى تطالب برأس النظام تحولت عندئذ إلى ثورة شعبية عارمة اكتسبت أبرز سمات الثورة، بل سيسجل التاريخ أنها ثورة من نوع خاص لم يعرف التاريخ أمثلة لها كثيرة، فقد كانت مدنية لم تقدها حركة سياسية معارضة، ولم يكن لها جهازها المسلح مثل الثورة الكوبية، ولم يتزعمها قائد بارز يتمتع بشعبية تستند إلى مذهب ديني يتخذ من رمز تاريخي في التضحية القصوى لمقاومة سلطة غير شرعية ظالمة نموذجا يحتذى مثل الثورة الإيرانية، فهنالك ثورات شعبية تشبه ثورة الرابع عشر من جانفي مثل ثورة الشعب المجري في خريف 1956، أو ثورة ربيع براغ 1968، ولكنهما فشلتا فلم تتمكنا من إسقاط النظام، فقد قمعهما الجيش الأحمر في المهد. هنالك ثلاث ثورات شعبية في التاريخ المعاصر شبيهة بالثورة التونسية : ثورة البرتقال بأوكرانيا، ولكنها تتميز عن التونسية بقيادتها السياسية النابعة من النظام القديم، وثورة القرنفل البرتغالية، وتتميز بدور الطبقة الليبرالية المتحالفة مع الجيش لإسقاط الديكتاتورية، وقد كانت وفية لتقاليد الليبرالية الغربية وقد عرفت بمواقفها السياسية الواضحة عندما يصبح الوطن في خطر، وليس مثل ما يعرف عن فئة الليبراليين العرب، فهم في جلّ الأحوال أقرب إلى السماسرة منهم إلى مفهوم الليبرالية الأصيلة، فلم نسمع يوما ما أن منظماتهم اتخذت موقفا واضحا من النظم الاستبدادية التي جرّت بلدانها إلى الهاوية على غرار النظام السابق. إنه من المعروف أن رأس المال العربي بقي هشا منذ سياسة المغارم السلطانية التي عرفها العصر الوسيط حتى استغلال النظام الجبائي الحديث لقمع المعارضين، ورغم هذا السيف الذي سلطته الديكتاتورية على رقاب الليبراليين النزهاء فإن ذلك لا يبرر صمتهم، بل تعاونهم، وبخاصة لما اشتدت القبضة الحديدية على الشعب، وفاحت روائح الظاهرة المافياوية، وهم من أدرى الناس بأساليبها. أما الانتفاضة الشعبية الشبيهة بثورة الشعب التونسي فهي ثورة الشعب الروماني، وثورة الشباب في مدن ألمانياالشرقية فهما ثورتان مدنيتان بدون قيادة ضد أعتى نظامين ديكتاتوريين عرفها التاريخ المعاصر، نظامين التحمت فيها خلايا الحزب الشمولي الحاكم بأجهزة مخابراتية رهيبة لتحكم تكميم الأفواه وكتم الأنفاس على غرار ما عاشته بلادنا في ظل الطاغوت الأكبر. إن تردد القيادة النقابية، وانتظارها لما ستسفر عنه الأحداث فوت على الثورة التونسية فرصة تاريخية لتكون توأما لثورة الشعب البولوني بقيادة الزعيم النقابي فاليسا. لم يسمح النظام السابق البتة ببروز أي زعامة سياسية أونقابية حتى في صفوف الحزب الحاكم، فقد كانت حول الزعيم بورقيبة زعامات متعددة، ولا غرابة في ذلك فالكوكب المشع لا يخشى من دوران النجوم حوله، ثم تدهورت الحياة السياسية ليصبح المسؤولون الكبار مجرد كتبة، وبيادق لتزيين المحافل، ولا مبالغة في ذلك، فمن تحمل مسؤولية سياسية في العهد السابق يعلم ذلك جيدا. أرى من الضروري قبل إنهاء هذه الفقرة الإشارة إلى ميزات أساسية في ثورة الرابع عشر من جانفي لم يتفطن إليها جلّ من كتب عنها، وأعني محتواها الطبقي، فلا ننسى أن الذين فجروها كانوا بالدرجة الأولى من المهمشين والعاطلين عن العمل، وقد انحدروا من مناطق مهمشة ومحرومة لم تحظ بعناية الدولة منذ الاستقلال، ولما تعمقت الفروق، وانتشرت قصص الثراء الفاحش لفئة المافيا المتمتعة بحماية هرم الدولة امتزج الشعور بالحرمان بالحقد الطبقي، وهذا ما يفسر انحصار مطالب الثائرين في آخر المطاف في مطلب وحيد إسقاط هرم السلطة، فقد أدركوا قبل النخبة السياسية والفكرية أنه لا أمل في الحرية، وفي العدالة الاجتماعية بدون إسقاط السلطة الحامية لظاهرة الفساد، ومن هنا جاء إصرارهم على رفض كل الذين ركضوا وراء الركب السلطاني القديم، وأميل إلى الاعتقاد بأن للقواعد النقابية دورا بعيد المدى في التحام المطالب السياسية بالمحتوى الطبقي للثورة ولكن تسارع الأحداث لم يسمح بالتنظير لهذا الجانب في ثورة الرابع عشر من جانفي. ثانيا – حكومة الوحدة الوطنية وتكرار الأخطاء إن كل وطني له تجربة سياسية مدركا دقة المرحلة التي تمر بها البلاد، وحريصا على صيانة مكاسب ثورة الشعب التونسي يقدر الصعوبات التي تواجه حكومة الوحدة الوطنية مع التأكيد أنها حكومة وقتية تحاول إنقاذ السفينة المترنحة، وهي مطالبة أولا وقبل كل شيء باستشارة أهل الرأي والخبرة ممن لم يتمسحوا على أعتاب الطاغوت، وبحت أصواتهم من الهتاف لركبه السلطاني، وهم كثر في بلادنا والحمد لله رغم وسائل الترغيب والترهيب التي مورست عليهم للانضمام إلى جوقة المناشدين. إن ضغط الزمن، وتسارع الأحداث جعلت الحكومة الأولى والثانية تقع في أخطاء أسهمت في زيادة التوتر، وتأخر الدخول في مرحلة الهدوء وتجاوز التأزم، وليس هدفي في هذا النص تعديد الأخطاء فقد ألمعت قبل قليل إلى أنني في طليعة المقدرين للظروف المعقدة التي تمارس فيه الحكومة سلطتها، إذ المهم أن تبقى هذه السلطة الوقتية ذات طابع مدني، وفي سبيل ذلك لا مناص من التنازلات، والتماس الأعذار. أكتفي هنا بالإشارة إلى هفوتين أساسيتين : ٭ ارتكبت الهفوة الأولى في تشكيل الحكومة الوقتية الأولى، فقد قبل جلّ الناس بقاء الوزير الأول بصفته وزيرا فنيا ليواصل استمرارية الدولة، وقد عرف بنظافة اليد، فهوفي حقيقة الأمر لم يكن في العهد السابق وزيرا أول، بل كان موظفا ساميا بدرجة وزير أول، وقبلوا كذلك أن يستمر معه بعض الوزراء في وزارات تقنية بحتة، أما أن تضم وزراء من زبانية الديكتاتور نظروا لسياسته الاستبدادية، وكتبوا كتبا في الدفاع عن تجربته في التعددية والديمقراطية فذلك أمر مرفوض، والمؤلم أن بعضهم ينتسب إلى فئة «الجامعيين». ومن الأدوار المضحكة في هذه المسرحية الهزيلة استقالة الوزراء من التجمع، إن الاستقالة من الأحزاب السياسية لها ظروفها التاريخية، فهي تتم عادة احتجاجا على سياسة حزب، أوضد موقف من مواقف قيادته، أما الاستقالة بعد انهيار نظام الحزب الحاكم، وفرار رئيسه فهي تدعوإلى الضحك، وليس إلى التقدير. لواستقال هؤلاء بعد أن بدأ الرصاص يحصد المواطنين، وقبل أن يهرب ولي نعمتهم لغفر لهم الشعب الكبائر التي ارتكبوها في حقه لما حملوا المباخر أما السلطان. إن كل الدلائل تكشف أن تشكيل الحكومة الأولى طبخ بليل، ولم يتفطن طباخها الماهر أن أنوف المواطنين تشتم روائح الطبخات المغشوشة. أرجوأن يأتي يوم يتجرأ فيه سيادة الوزير الأول على كشف سرّ الطبخة والطباخين خدمة لتاريخ البلاد السياسي، أرجوأن يمد الله في عمره ليكتب مذكراته، وتكون له الشجاعة ليكشف ما في الزوايا من خبايا، وهويعرف منها الكثير. ٭ أما هفوة الهفوات فقد ارتكبها قادة أحزاب لهم تجربة سياسية ثرية، ووقفوا في وجه التعسف والظلم، ورحب الرأي العام بمشاركتهم في حكومة الوحدة الوطنية، فقد كشفت أزمة الحكومة الأولى أنهم قبلوا المشاركة دون أن تكون لهم دراية بأسماء بقية أعضائها، ولم أسمع أن حكومة وحدة وطنية، أو حكومة تحالف سياسي أعلن عن أعضائها دون أن يكون جميع الأطراف عارفين بكامل أسمائها، ولم يسجل تاريخ الفكر السياسي الحديث منذ الثورة الفرنسية الكبرى حتى اليوم هفوة من هذا النوع.