لأول مرة في تاريخ الشعوب العربية تنهض ثورة عارمة غاضبة، تعصف برأس السلطة نتيجة سنين طويلة من القمع ومصادرة الرأي وكبت الحرية. نعم! هي تونس الغاضبة بكل أطيافها، صغارها وكبارها رجالها ونسائها وقد استوى في هذه الثورة الذين يعلمون والذين لا يعلمون. فهي ثورة الصبي يريد أن يعيش كما يشاهد في وسائل الإعلام المتطوّرة صبيان الأمم المتقدمة. وهي ثورة الفقير والمحتاج و«الغلبان» وقد هدّته سنون الاحتياج بسبب التوزيع غير العادل للثروة الوطنية حتى وإن كانت متواضعة. وهي أيضا ثورة الشيخ الذي عاش سنوات الاستعمار فلم يجد فرقا أحيانا بين الماضي التعيس والحاضر البائس وقد توازى هنا وهناك الظلم والقهر واختلاس لقمة العيش، يُسرق منه رغيفه فلا يقدر على المقاومة ولا حتى الاحتجاج أحيانا يشعر بالتيه فيستشرف الموت المرتقب بل يتعجّله انتحارا كما «البوعزيزي» يئس فلم يخف منه اليأس. وسجّل التاريخ أن «بائع خضار وفواكه» بقّال على الطريقة الشرقية أطاح برأس النظام المتجبّر فأجبر على خلع نفسه دون ان يدري وجَبُنَ ففرّ كما الفأر، وهنا أحيلك ايها القارئ الى تاريخ البرجوازية المتفوقة في المجتمعات الغربية التي كانت تشيع بين أوساط الفقراء والعمال والمحتاجين مقولة «أنتم من محظوظي الآخرة لا الدنيا». وهي في المنتهى ثورة المثقف وقد جلدته المعارف وحزّ في نفسه أن يقضيَ سنوات العمر في التعلّم والتعليم او العمل، كَرَعَ من حياض العلم وقدّم التغذية الراجعة، زبدة المعارف والمهارات وما نُقش في ذهنه المتنوّر من قيم وأخلاق وحبّ للخير وبعد عن الشرّ ودعوة الى أخذ المبادرة الخاصة وفكّ عقدة اللسان والتعوّد على الكلام المباح والمعقول والدفاع عن ذاته بالرؤية والحضارة ثم اختيار من يسُوسه بنزاهة وصدق دونما غشّ أو تصفيق او تلفيق أو نفاق او استغلال للفرص مُفْض كل ذلك الى إهانة الشعب والضحك على ذقونه... و...و...و... وهي ثورة متأتية من غضب الطبيعة وغضب الله لما استشرى في هذا المجتمع الناعم من نفاق وتدجين وانتهازية ووصولية وكذب وخداع وتعامل حتى مع الشيطان. فلا نستغرب إذن ان يعمل أولئك المنافقون مع الدجالين و«التڤازة» و«العزّامة» فنبشوا القبور وقلبوا الأراضي بحثا عن الكنوز وفاتهم ان الكنز الحقيقي إنما هو في العمل الجاد والقناعة وهنا أذكّرك، أيها القارئ العزيز بمثل من أمثال «لافُنتان»: Le laboureur et ses enfants. (Fables de la Fontaine) المزارع وأبناؤه. مفاده ما يلي: استدعى مزارع بسيط وهو على فراش الموت أبناءه وأراد ان يلقّنهم درسا قيّما في معنى العمل الجاد والثروة الحقيقية فأوهمهم انه دفن كنزا ثمينا وواجبهم يقتضي البحث عنه، فطفق الأبناء ينبشون ويحفرون من أجل استخراج ذلك الكنز المزعوم فلم يجدوا له أثرا. وإذ قلبوا الارض وحرثوها فإنهم زرعوها وتعهدوها بالريّ والتسميد ثم حصدوها وجمعوا المحصول فكان ذلك هو الكنز الحقيقي: عمل وغرْس وحرْث وحصاد. ومن زرع حصد. هذا هو مثل La Fontaine في الثقافة الغربية عن العمل والفعل وقد تعمّدت تقديمه عن احدى القيم العربية الاسلامية لأُرضي شاربي الثقافة الغربية وأنا واحد منهم والمتخمّرين بقيمها ومناهجها، ولستُ متخمّرا مثلهم وأشير هنا عزيزي القارئ الى موقف الأستاذ الطبيب المرزوقي الذي رجع من منفاه متخمّرا فقدّم ترشحه للرئاسة على عجل في المطار وكانت لغة خطابه لغة الفرنسيين فهل سينتخبه أناس مُتفرنسون؟ اللهم اشهدْ إن بلادنا: عربية اللسان، إسلامية الدين. ولم يكفه ذلك بل إنه ركب على حدث انتحار الشهيد البوعزيزي فتحوّل مباشرة الى سيدي بوزيد وترحّم على روحه ربّما بآيات قرآنية مترجمة ثم طلب من الجموع أن يخطب فيهم فأجابوه بلغة الأسى والتعقل شكرا: ثبّت الله أجرك وطريقك ليست من هنا. فهل استوعب الدرس؟ إذن تعمدتُ تقديم مثل La Fontaine لما تقدّم من حقائق وها أنا الآن أحيلك عزيزي القارئ على قيمة عربية اسلامية هي آية من النصّ الديني {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} وهي آية طالما استدلّ بها الرئيس المخلوع تقريبا في أواخر كل خطبه المكتوبة له من قبل مستشارين باعوا ذممهم ودفعوا الرئيس ان يتواطأ مع حرمته فاكتمل مشهد الخداع والنفاق، خداع الشعب الذي ائتمنه على مصالحه ونفاق المجتمع الدولي بلباسه جبّة التقوى وحبّ الخير والتضامن فمرّر مشروع التضامن الدولي في الأممالمتحدة والناس يصفّقون ولا تعجب أيها القارئ الكريم فوراء كل رجل «عظيم» «امرأة». وفي المنتهى، هذه الثورة التونسية الصرف، هي ثورة الغضب من أجل الديمقراطية ودولة القانون بالمعنى الأصيل التي ينعم فيها الكبير والصغير، الانسان والحيوان وتلك مشيئة الله والطبيعة وإرادة الانسان ومن أراد استطاع. ورحم الله شاعرنا الشاب أبا القاسم الشابي لما قال من قصيدته «أرادة الحياة»: ومن لم يعانقه شوق الحيا ة تبخّر في جوّها واندثرْ فويل لمن لم تَشُقْه الحياة من صفعة العدم المنتصر ٭ بقلم صالح الحرشاني (أستاذ أول فوق الرتبة)