٭ تونس «الشروق»: ماتزال الأوضاع في ليبيا تشد إليها الأنظار وسط التطوّرات الميدانية المتلاحقة والمعارك اليومية شرق وغرب ووسط البلاد بين الموالين لنظام العقيد القذافي ومعارضيه، ووسط كذلك منطق الحسابات والتخمينات والتكتيكات التي تهزّ المجتمع الدولي والقوى العظمى وأساسا منها الولاياتالمتحدةالأمريكية. «الشروق» التقت الدكتور منصف ونّاس الأستاذ الجامعي والباحث المتخصص في الشؤون المغاربية ومؤلفي كتابي «العسكر والنخب والتحديث في ليبيا» و«السلطة والمجتمع والجمعيات في ليبيا»، فكان هذا الحديث: وللدكتور ونّاس بهذا المعنى دراية واطلاع بالشأن الليبي ومعرفة دقيقة بتفاصيل وجزئيات المجتمع الليبي بتكويناته وتلويناته القبلية والسياسية والفكرية. ٭ حسب رأيكم ماهي البيئة التي انتجت مثل هذه الثورة في ليبيا في بلد كان يعتقد انه كان من أكثر بلدان المنطقة استقرارا؟ ان أسباب هذه الثورة هي متعددة ولا يمكن تلخيصها في حديث سريع لأن هذه التجربة الليبية امتدت 42 سنة، فقد فضّل النظام الليبي اعتماد ما يسميه بالديمقراطية الشعبية المباشرة التي أفضت من خلال الممارسة الميدانية الى حالة من انعدام الوساطة المؤسسية بين السلطة والمجتمع، اي انها أفضت الى علاقة مباشرة بين الحاكم والمحكوم وهذا طبيعي طالما ان ليبيا لا تتوفر لا على أحزاب ولا جمعيات ولا روابط ولا نقابات فعلية ولا منتديات ثقافية وسياسية، وهو ما يعدّ شكلا غريبا من أشكال الحكم لا يتلاءم مع طبيعة النظم الحديثة التي تعتمد أساسا على الوساطة السياسية والمؤسساتية وعلى تأطير تعبير المجتمع عن نفسه من خلال هياكل ذاتية وتمثيلية. كما لم يعد ملائما في القرن 21 ان يعبّر الأفراد عن أنفسهم من خلال شيوخ القبائل، فمثل هذه الصيغة في التعبير السياسي كلاسيكية ولا تستجيب للحاجيات السياسية لشرائح واسعة من المجتمع وفي مقدمتها الشباب الذي يحتاج الى هياكل وأحزاب ومنابر تدعم حقه في التعبير وفي المشاركة. وقد انضافت حالة الانسداد السياسي هذه الى غياب الحد الأدنى من الشفافية في تسيير ثروة البلاد وهي مهمة بدليل ان ليبيا جنت من الريع البترولي خلال سنتي 20082009 أكثر من 82 مليار دولار وهو مبلغ هائل قياسا الى حوالي 6 ملايين نسمة، كان بالامكان توظيفها في رفاهية الشعب الليبي وتحقيق تقدّمه الاجتماعي واستفادته من ثرواته الطبيعية. فمن اللافت للانتباه ان نسبة الفقر مرتفعة جدا وتصل الى نسبة 60٪ بين الأسر الليبية كما تقدّر نسبة الليبيين تحت الخط الأحمر من الفقر بحوالي 35٪. ولعلّ هذا ما شجّع مثل هذه الثورة خصوصا ان هياكل اللجان الشعبية والمؤتمرات لم تكن هياكل تمثيلية ولم تكن ترتادها سوى نسبة قليلة جدا من الشعب الليبي الأمر الذي خلق حالة من الإخفاق في مجال التعبير والمشاركة السياسية والإحباط والشعور المتزايد على امتداد عقود اربعة من الحرمان وانسداد الآفاق في بلد غني جدا كان بالإمكان ان يحقق الرفاهية للجميع وأن يضمن الحدّ الأدنى من تكافؤ الفرص بالنسبة الى كل الفئات المكوّنة للمجتمع الليبي، وهذا الأمر على غاية من الأهمية فإذا كان النظام قد اختار نمطا واحدا من التعبير والمشاركة ورفض كل حالات التعبير المختلف والمغاير فإنه كان بإمكانه أن يضمن الحدّ الأدنى من الرخاء المادي والاقتصادي والاجتماعي وأن يضمن تحديثا سياسيا أو اقتصاديا واجتماعيا من خلال توزيع شبه عادل للثروة وتحقيق تنمية جهوية متوازنة ومنع التفاوت الاجتماعي والطبيعي وضمان الشفافية في تصريف الربح البترولي والحيلولة دون الفساد والتلاعب بالمال العام وجعل الثروة في متناول كل الفئات الاجتماعية من خلال خطط تنموية واضحة ومدروسة بجدية ومن خلال استثمار جيد لعائدات النفط لخلق تنمية فعلية في بلد توقفت فيه التنمية تقريبا منه 1984 وغابت عنه كل الخطط والبرامج الواضحة. عديد المراقبين يقرون بدور أمريكي حاسم في مستقبل ليبيا...كيف ترون اتجاهات هذا الدور? ما يجب تسجيله أن الإدارة الأمريكية لم تحسم بشكل واضح وجلي موقفها من الأوضاع في ليبيا ولم تصل الى تصور واضح لما يمكن ان تكون عليه ليبيا مستقبلا فهي تتنظر حسم الصراع العسكري المحتدم بين السلطة ومعارضيها في الشرق من جهة وحسم المعركة حول الثروة البترولية وحقول النفط من جهة أخرى، ولذلك فهي مترددة الى حد الآن في حسم الموقف السياسي من النظام الليبي وتبقى هامشا من المناورة، فإذا ما أحست أن حقول البترول والمصافي خرجت تماما من سيطرة النظام فهي لم تتردد في اتهاء النظام واجباره من الناحية السياسية والعسكرية على التنحي. فالمفارقة اللافتة للانتباه أن أمريكا هي معنية بالأساس بالثروة البترولية في ليبيا والتي تقدر بأكثر من 38 مليار برميل خاصة وأن نوعية البترول الليبي نوعية جيدة وسريعة الاستغلال وهي للأسف معنية بسوق إعادة إعمار ليبيا التي نعتقد أن كلفتها تقدر بأكثر من 200 مليار دولار علما وأن البنية التحتية تعرضت الى اتلاف ونسيان واهمال خلال الفترة الفاصلة بين 1988 و2011 ولا نبالغ اذا قلنا إن البنية التحتية لليبيا في حاجة الى إعادة تجديد من طرابلس إلى غاية الحدود التشادية كما لا يفوتنا أن نؤكد أن أمريكا معنية أساسا باستباق أوروبا والصين في السيطرة على البترول الليبي وعلى عملية إعادة الإعمار وعلى تمكين اسرائيل من حصة معتبرة في عملية الاعمار هذه الأمر الذي يمكن الكيان الصهيوني من التغلغل في منطقة المغرب العربي وفرض الحوار على النظم في هذه المنطقة. فأمريكا لا تريد أن تسيطر أوروبا والصين على هذه الثروات كما لا تريد ان يتمتع الاتحاد الاوروبي بأي حصة في اعادة اعمار وتهيئة وتأهيل البنية التحتية فلدينا قناعة واضحة أن بعض القوى السياسية وخاصة تلك القادمة من الشتات قد توافق على مثل هذه المقايضة أي اسقاط النظام القائم في طرابلس إما سياسيا وإما عسكريا مقابل تأمين المصالح الأمريكية في البترول وإعادة الأعمار، فنحن لا نتمنى نجاح مثل هذه الصفقة أو هذه المقايضة لأننا نخشى من وجود اسرائيل على حدودها ونحن نتمنى بكل الحاح على المعارضة الليبية والقبلية أن تنظر الى مصلحة ليبيا وأن ننظر إلى مخاطر سرقة أمريكا واسرائيل نتائج هذه الثورة فمن الواضح أن الإدارة الأمريكية غير حريصة على حقوق الانسان وغير معنية كثيرا بوقف نزيف الدم الليبي ولا على استمرار النظام الليبي بقدر ماهي معنية بتحصيل البترول والسيطرة على مردوده المالي فإذا ما أحكمت المعارضة الليبية سيطرتها على النفط انتاجا وتسويقا سيتغير الموقف الرسمي الأمريكي تغييرا جذريا حرصا على المصالح من جهة وحرصا كذلك على التحكم في هذه الثورة وفي اختياراتها المستقبلية والعمل ربما على افشالها إذا كان ذلك يؤدي الى أي خطر على مصالحها ومصالح اسرائيل. حسب قراءتكم وتوقعاتكم أي السيناريوهات ممكنة في خضم هذه الفرضيات بخصوص مآل الأوضاع في ليبيا والدور الأمريكي؟ نتوقع أن تحسم الادارة الأمريكية من النظام الليبي خلال الثلاثة أيام القادمة بعد أن تتضح وضعية حقول البترول والمصافي النفطية وخاصة أن تشتد قبضة المعارضة على الجغرافيا الليبية، عندئذ ستعمد الادارة الأمريكية إلى ممارسة ضغط سياسي وعسكري شديد من أجل رحيل القيادة الليبية أو تصفيتها تصفية ميدانية إذا لم تسعى إلى تشجيع الحراسات الشخصية على القيام بعملية التصفية، وعندئذ تصبح أمريكا متحكمة في الوضعية السياسية في ليبيا وقادرة على املاء شروطها التي كنا أشرنا الى بعضها. بهذا المعنى هل ثمّة قوى سياسية معارضة مستعدة لخدمة الأجندا الأمريكية المذكورة؟ إني أستبعد تماما تدخلا عسكريا أمريكيا ميدانيا ومباشرا في ليبيا خاصة أن الادارة الأمريكية متورطة تورّطا مفزعا في العراق وأفغانستان ولكن في مقابل ذلك تسعى الادارة الأمريكية الى تسخير المعطيات السياسية لصالحها، فهي ستطالب بثمن سياسي مقابل إنهاء النظام الليبي الراهن ويتمثل في املاء شروط معينة تضمن مصالحها في البترول وفي عملية تجديد المجتمع وإعادة تأهيل البنية التحتية، ولهذا نعتقد أنه ثمّة قوى سياسية خاصة تلك القادمة من المهجر وخاصة من أمريكا والمستعدّة لقبول مثل هذه المقايضة. صحيح أننا لا نستطيع ذكر أسماء معيّنة لتجنب الاحراج السياسي لها، ولكنها واضحة ومعروفة وخطابها يدل على مثل هذا التوجه الذي نرجو أن لا يتمكن من النجاح لتبعاته الصعبة على المنطقة العربية. إذن، ماهي الخيارات المطروحة أو الحلول لتجنب مثل هذا السيناريو الأسوأ؟ ردّا على مثل هذا السؤال أفضل أن نعوّل على الموارد والامكانات الذاتية لليبيا ولعلّي أشير في مقدمتها الى الضباط الأحرار الذين أنجزوا حركة الفاتح من سبتمبر وشاركوا القذافي التغيير السياسي وأشير في مقدمتهم إلى اللواء مصطفى الخروبي واللواء أبوبكر يونس جابر والرائد الركن عبد السلام أحمد جلود والرائد مختار القروي والرائد البشير الصغير هوادي، هؤلاء الذين صنعوا التغيير الكبير في سنة 1969. هؤلاء الضباط مؤهلون بأن يلعبوا دور الوساطة بين النظام ومعارضيه شرقا وغربا في اتجاه ايقاف نزيف الدم أولا وتغليب الحوار على لغة السلاح والقتل والعنف. إني أتمنى على الرائد الركن عبد السلام جلود وهو سليل قبيلة المقارحة وما أدراك ما قبيلة المقارحة أن يلعب دورا ضاغطا من أجل حلّ سياسي لهذه الحرب الضروس خشية أن تتحول الى حرب قبلية خاصة أن البلد يتوفر على أكثر من 150 مليون قطعة سلاح من الطائرة الى غاية المسدّس العادي وفي بلد يتمتع بتقاليد راسخة في مجال الثأر القبلي، لكن أيضا أهيب بشيوخ القبائل من المتوسط الى غاية افريقيا لتغليب لغة الحوار وتشجيع الرصانة السياسية وإعلاء مصلحة ليبيا ووضعها فوق كل اعتبار. ويمكن أن أوجه الدعوة كذلك الى كبار ضباط الجيش المنشقين على النظام مثل اللواء سليمان محمود العبيدي الذي يتمتع بمقبولية واضحة في الجيش الليبي وبعمق قبلي مهم باعتباره سليل قبيلة العبيدات وإلى اللواء محمد بوحجر للضغط بقوة من أجل ايقاف نزيف الدم والعمل على ايجاد حلّ سياسي يجنب ليبيا المأزق المدمّر ويسمح بتغليب الحلّ السياسي على الحسم العسكري الذي لا نشك أن كلفته ستكون باهظة بالنسبة للنظام وللمعارضة. إن هذا التحالف ثلاثي المكوّنات يمكن أن يأخذ مبادرة جريئة وشجاعة ويوفر أرضية مقنعة للجميع تفوّت الفرصة على التدخل الأمريكي الذي نراه قادما بغض النظر إن كان سياسيا أم عسكريا. يعني، هناك امكانية لعدم سقوط النظام في طرابلس؟ المسألة في ليبيا ليست بقاء النظام أو زواله وإنما انقاذ ليبيا من خلال عنصرين متكاملين: وقف نزيف الدم تغليب البعد السياسي الوفاقي الذي ينقذ ليبيا من التفكك ويسمح بترتيب البيت الليبي من الداخل دون تدخل أجنبي. وليس لديّ أي شك أن القيادة الليبية إذا ما توفرت فرص هذا الحوار الجدّي أن تقبل بما يمكن أن يفضي إليه بما في ذلك امكانية التنحي. تحدث النظام الليبي عن خيار ايقاف المعارضة والحرب القبلية بحسب معرفتكم السوسيولوجية والسياسية للمكوّنات القبلية في ليبيا، هل من الممكن أن تتطور الأوضاع إلى هذه الحرب القبلية؟ للأسف ثمّة أطراف من المعارضة في منطقة الشرق الليبي تتحدث عن امكانية محاربة القذاذفية إذا لم ينخرطوا في عملية انهاء النظام، فإذا ما حصل هذا وهو أمر لا نرجوه البتّة، فسيكون كارثيا بالنسبة إلى ليبيا، فقد شاركت قبائل القذاذفة في معارك الجهاد باقتدار واحتضنت سرت معركة القرضابية الشهيرة التي وقعت سنة 1929 والتي جمعت لأول مرة في تاريخ ليبيا كل القبائل الليبية المتحالفة أو المعارضة للاحتلال الايطالي. فلا يجب أن تغفل المعارضة عن هذا التاريخ المشرق، بل إننا ندعو من هذا المنبر الى تشريك القذاذفة في أي حل سلمي لهذه المسألة ولا يتم عزلها، فالقذاذفة قادرون على المشاركة في الحل السلمي القادر على ايقاف نزيف الدم وازهاق الأرواح البشرية. إن استحضار روح القرضابية في مثل هذا الوضع العصيب من تاريخ ليبيا يساعد على تغليب الوفاق وعلى استبعاد الثأر القبلي وعلى تهيئة سلسلة للمرحلة الانتقالية قد يكون هذا القول شديد الواقعية ولكنه نابع من معرفة دقيقة بحساسية الوضع القبلي في ليبيا. فمن الواضح أن النظام يريد الابقاء على قبضته على الغرب الليبي حتى وإن كان جزئيا من أجل تحسين شروط المفاوضة مع الادارة الأمريكية ومع المعارضة في الغرب والشرق. كيف تنظر الى انعكاسات الوضع الليبي على تونس؟ لسنا في حاجة الى التذكير بالكلفة الاقتصادية فهي واضحة بالنسبة الى الجميع، ولكن نود لفت الانتباه خاصة الى الكلفة الأمنية لهذه الأوضاع فيتواصل على امتداد الأسابيع الأربعة القادمة تدفق مآت الآلاف من العمالة الأجنبية على تونس خاصة أن هناك مليون ونصف مصري يشتغلون في ليبيا نصفهم موجود في المنطقة الغربية. كما نشير الى أنه من المنتظر أن نسجل خلال الأيام القليلة فرار ما بين 2000 الى 3 آلاف مسؤول سياسي وأمني وعسكري من الذين ارتبطوا بالنظام مباشرة والذين يخشون المحاسبة والتتبع وخاصة المحاكمة وخاصة من أولئك الذين ارتبطوا بتنظيم اللجان الثورية الذي كان يعد لسنوات قريبة أكثر من 10 آلاف عنصر. كما يجب توقع فرار ما بين 10 الى 12 ألفا من الميليشيات الافريقية المسلحة والمدربة عسكريا باتجاه تونس ومحاولة الرجوع الى بلدانهم. فمن شأن هذه الكتلة البشرية المتنوعة في التكوين والأوضاع والمشارب أن تشكل عبءا ثقيلا على استقرار تونس ويمكن أن تتورط في أعمال فوضى انتقاما من الوضع في ليبيا ولهذا يتوجب لفت الانتباه الى المحاذير المرافقة لهذه التدفقات البشرية على استقرار أمن تونس وخاصة على السياحة في المقام الأول. فإزاء كل هذه المحاذير والمخاطر يتوجب العمل على ابداء أقصى درجات اليقظة والانتباه والاستعداد اللوجيستي لذلك، ولا يسعنا في خاتمة هذا الحوار إلا أن نرجو السلامة لتونس راهنا ومستقبلا.