نعم نريد الاصلاح في سوريا، نريد لكل اللحم المتهدل والميت ان يزاح عن بنية شعب الأمويين، ان ينفذ الرئيس الشاب ما كان يعد به منذ ان وصل إلى السلطة وهو في بداية ثلاثينياته، أي في عمر الشباب الذين يعتصمون في ساحات العالم العربي كله مطالبين بالتغيير. ولكننا لا نريد ان يصل بنا استغلال المكبوت الهائل لدى الناس، إلى تخريب البلاد وتقسيمها. لا نريد ان يختلط العميل والملتف والمتسلل والغوغائي بالوطني الطامح إلى إلحاق بلاده بركب العالم الحر المتمدن. نريد تفتيت التكلس المتكون على العظم ولكننا لا نريد كسر العظم الذي يشكل العمود الفقري للوطن العربي، خاصة بعد نكبة العراق. تحدثنا يوما عن «لبننة» العراق، ووقعنا فيها، وتحدثنا عن «عرقنة» العالم العربي، ووقعنا فيها، والآن نتحدث عن «ليبية» سوريا ونخشى الوقوع فيها. خشية لا تستطيع إلا ان تأخذ في الاعتبار ان الشاطىء السوري كله وبعد التدخل في ليبيا أصبح في مرمى قوات شمال الاطلسي، في حين ان البر كله في مرمى التدخل الاسرائيلي سواء جاء مباشرا من الجولان أو تسلل غير مباشر من شمالي لبنان وشرقه أو من الأردن. وربما لا نكون مغالين إذا قلنا ان التدخل الغربي في ليبيا، قد اتجه إلى سواحل المغرب وعين له على نفط ليبيا وعين أخرى على المشرق، حيث الهدف السياسي الحقيقي يتمثل في أمرين: الالتفاف على ثورة مصر وخنق التوجهات الجذرية فيها، واستكمال الحصار على سوريا (ومعها لبنان). لا لم يكن من المستغرب ان تتفجر الأوضاع في سوريا بعد استقرار قوات الأطلسي في المتوسط. أهي نظرية المؤامرة التي يأخذها علينا الكثيرون؟ أهي انكار لحق الشعب (السوري) في الحرية والكرامة؟ أهي استخفاف بالتيار الكهربائي المحيي الذي انطلق من تونس ليدفع الحياة في الجسد العربي الشعبي ؟ لا هذه ولا تلك! فالشعب السوري يعاني منذ عقود من ديكتاتورية الحزب الواحد، وأجهزة القمع على اختلافها، أضيف إليها هرم كامل من الفساد ضمن عدم اهتزاز قواعده بفعل تكلس مفاصل الحياة السياسية الداخلية، والحياة الاقتصادية الداخلية، وهذا الشعب السوري هو وريث من بنوا الدولة العربية الاسلامية، فإن ضاقت بهم «الحقوا الدنيا ببستان هشام» وهو وريث «شهداء 17 ايار» في الثورة ضد العثمانيين وهو وريث يوسف العظمة قائد وشهيد الثورة الكبرى في وجه الفرنسيين المنتدبين هو ملهم احمد شوقي في مقولته الخالدة «وللحرية الحمراء باب، بكل يد مضرجة يدق !» لا فهو الشعب المرشح اكثر من غيره إلى تلقي النداء الذي انطلق من تونس وأشعل القاهرة وصنعاء والمنامة. لكنه من السذاجة السياسية أخذ الامور بالعموميات هذه، واغفال الخصوصيات التي تميز كل ساحة من هذه الساحات. كما انه من باب الغوغائية السطحية اعتبار ان ما حصل في تونس أو القاهرة ثورة مكتملة، في حين انهما اطلقتا تمردا وعصيانا شعبيا، يريد الانقياء استكماله ليصبح ثورة، وتحاول أطراف متعددة التسلل إليه لتحويره أو للاتفاف عليه بهدف ابقائه في المربع القديم ولكن بألوان جديدة، أو بإخراجه إلى مربع آخر قد لا يكون اقل خطرا على المصالح الداخلية والخارجية للدولة المعنية وللوطن العربي (هذا اذا كان ما يزال هناك من يقبل منا ان نتحدث عن مصالح قومية !) وإذا كان صراع الارادات هذا قد تجلى بأكثر وجوهه دمارا وعنفا ودموية في ليبيا، فإن ذلك سيكون لعبة اطفال اذا ما حصل المحظور لا سمح الله في سوريا، لأنها ستكون معركة التصفية النهائية في الصراع العربي الاسرائيلي، ومعركة التصفية النهائية في مشروع الشرق الاوسط الجديد الأمريكي عبر طريق الفوضى الخلاقة المرسومة. وبذا لا يكون حديثنا نظرية مؤامرة موسوسة، بل رؤية استراتيجية لطبيعة الاستراتيجية الكبرى للامبراطورية الأمريكية ومن ورائها العالم الغربي، وللرؤية الاستراتيجية الاقليمية التي ستترك للقوى الثلاث القائمة (إسرائيل وتركيا وإيران) ان تتقاسم العالم العربي، سلميا أم مواجهة. على الرئيس السوري الذي يسير في حقل الغام رهيب، ان يذكر انه ليس من باب المصادفة ان تكون دمشق أقدم عاصمة في التاريخ وأول عاصمة للدولة العربية، وان تطور احداثها سيحدد مصير القضايا القومية، بل ومصير التحركات الشعبية الاخرى على امتداد الساحات العربية، من مغربها إلى مشرقها ومصير حركات المقاومة العربية بوجه الاحتلال في فلسطين والعراق. لذا على الرئيس ان يتقدم بجرأة على طريق الاصلاح الحقيقي، بدءا من رفع حالة الطوارىء (مع بقاء استثناءات متعلقة بالحدث) واطلاق الحريات، خاصة الاعلامية. واقرار وتطبيق قانون الأحزاب والانتخابات النيابية. ولن تكون آخر الكوارث ان ينتهي نظام الحزب الواحد، أولا لأن دمشق كانت ما كانته تاريخيا وحملت ثوراتها الكبرى قبل البعث، وثانيا لأن فتح ساحات الجدل الفكري السياسي قد يفيد البعث نفسه ويعيد إليه حيويته إلى جانب حيويات الأحزاب الأخرى التي لا تظهر قوتها الحقيقية على الساحة، لكنها موجودة. عندها تنتقل المواجهة من الشارع إلى الفضاء العام، ومن الهتاف إلى الفكر، ومن الدم إلى الكلمة. اما الأيدي السوداء العاملة في الظلام وعبر الكهوف فستنكشف ولن تجد لها بيئة مكبوتة ومقموعة ومهانة جاهزة للاستغلال.