مع بداية مباشرة اجراءات التحقيق ومقاضاة بعض رموز النظام البائد وعائلات بن علي وزوجته، تعالت أصوات من هنا وهناك منادية بضرورة عدم الدفاع عنهم من طرف المحامين. والغريب في الأمر أن هذه الأصوات لم تقتصر على المواطن العادي، بل لعلها انطلقت وللأسف من أوساط المحامين والنخبة بصفة عامة. لقد تمت حملة خفية مدروسة غير معلنة غايتها احراج كل من يفكر من المحامين في نيابة أحد هؤلاء المتهمين، ونجحت هذه الحملة نسبيا. ولعل من الغرابة أيضا أن هناك من طرح، حتى من داخل هياكل المحاماة، أن يتولى فرع المحامين تعيين محامين للمتهمين متناسين أن الدفاع حر وأن المتقاضي حر في أن يختار من يدافع عنه. ان مهنة المحاماة مهنة حرة مستقلة والمحامي حر في أن ينوب أو لا ينوب. ان الخطاب الرائج بأن لا يدافع أحد عن رموز الفساد المالي والسياسي هو في ظاهره خطاب ذو بريق ثوري أخاذ ومغر، ولكنه في باطنه خطاب هدام يشرع للغوغاء والفوضى ويقطع الطريق أمام أولى الامتحانات التي علينا اجتيازها بنجاح لتحقيق الانتقال الديمقراطي. لا أعتقد أن مثل هذا التفكير والخطاب يخدم الحرية والديمقراطية في شيء.. لابد أن نتفق أولا: ماذا نريد بعد الثورة؟ هل نريد التشفي و الانتقام و القصاص؟ ان كان ذلك كذلك فالأمر سهل جدا. ولكن له مخلفات عميقة وخطيرة على مجتمعنا وهذا من شأنه أن يدخلنا في دوامة التصفيات والاقصاء اللذين لن ينتهيا حتى يقضيا على كل شيء جميل نريد أن نؤسس له في وطننا الجديد.. أم نريد أن نؤسس لنموذج ديمقراطي راق.. لابد أن تسبقه عدة أشياء ضرورية وأساسية أولها كشف الحقيقة وثانيها المحاسبة ومعاقبة كل من تثبت ادانته بارتكاب جرائم في حق هذا الشعب.. من أجل ماذا؟ من أجل القطع مع الماضي.. من أجل خلق ثقافة عدم الافلات من العقاب.. من أجل اعلاء القانون على الجميع.. و ذلك لن يتم بدون أن يحاسب المتهمون في اطار محاكمات تتوفر فيها ضمانات المحاكمة العادلة.. ولا محاكمة عادلة بدون دفاع.. بدون محام.. يؤدي مهمته طبقا لتقاليد مهنة المحاماة وأعرافها الكونية.. وبدون قضاء مستقل ...لا ينساق فيه القاضي هو الآخر وراء الشعبوية الثورية ضرورة أن الاثبات الوحيد على استقلالية القضاء هو أن تصدر الأحكام طبق القانون وحسب أوراق الملف مهما كانت هذه الأحكام مخالفة ل«السائد الثوري». ولنعد للحديث عن المحامي عند مباشرته لمهنته فهو يدافع عن ملف وعن متقاض.. بمعنى أنه لا يتبنى قضية موكله بل يدافع عن تطبيق القانون وعن احترام الاجراءات.. مثال ذلك أن يدافع محام عن متهم اقترف جريمة قتل شنيعة فهو لا يتبنى ما فعله موكله ولا يدافع عن هذه الفعلة بل يدافع عن حسن سير الاجراءات وعن اقتراف منوبه الجريمة من عدمها انطلاقا من المبدإ الكوني القائل بأن المتهم بريء حتى تثبت ادانته. ان أهمية هذه المسألة تكمن في أن مسار التحول الديمقراطي يقتضي أن نختار بين التعلق بتصفية الماضي بالمعنى والبعد العاطفي الذاتي ونشرع حينئذ للتشهير والانتقام والقصاص الشخصي الفردي وهذه كلها ممارسات النظام الدكتاتوري، وبين النظر الى المستقبل والى بناء دولة القانون والمؤسسات بحق.. وذلك يقتضي حسب رأيي طرح عنوان كبير أول يتمثل في القطع مع الماضي وذلك يتجسد باتخاذ كل الاجراءات لكشف الحقائق أي الجواب عن سؤال محوري : ماذا جرى ولماذا جرى ما جرى؟ ثم محاسبة المسؤولين في اطار اجراءات قانونية وقضائية تقطع مع ممارسات الاستبداد وتضمن الشفافية والموضوعية والمحاكمة العادلة.. كل ذلك من أجل تفادي اعادة حصول ما حصل.. تفادي تكرار ما حصل من قمع واضطهاد وفساد.. لذلك أنا أختار المستقبل.. أختار القصاص المجتمعي لا الفردي.. أختار المحاسبة في اطار اجراءات قضائية تتوفر فيها ضمانات المحاكمة العادلة، لا الانتقام والتشفي..