من المحكمة العسكرية الدولية بنيورنبورغ المنشئة في 8 اوت 1945 الخاصة بمجرمي الحرب النازيين والمحكمة العسكرية الدولية لأقصى الشرق أو محكمة طوكيو المنشئة في 19 جانفي 1946 المتعلقة بمحاكمة القادة المدنيين والعسكريين اليابانيين، ظل العالم يبحث على إرساء محكمة جنائية دولية دائمة لمعاقبة المتسببين في الجرائم التي تهز الضمير الإنساني. ولبلوغ ذاك الهدف كانت المحكمة الجنائية الخاصة بيوغسلافيا السابقة المنشئة بموجب قراري مجلس الأمن رقم 808 بتاريخ 22/2/1993 ورقم 827 بتاريخ 25/05/1993 والمحكمة الجنائية الخاصة برواندا المنشئة بقرار مجلس الأمن رقم 955 بتاريخ 08/11/1994 كانت بداية التأسيس لإنشاء محكمة جنائية دولية دائمة إلى أن تحقق الهدف وأنشئت محكمة الجنايات الدولية حينما تم إقرار نظامها الأساسي في 17/7/1998 إثر المؤتمر الديبلوماسي المنعقد بروما هذا النظام الذي دخل حيز التنفيذ سنة 2002 بفعل المصادقة الواسعة عليه من طرف الدول الإفريقية واستبعاده من طرف الكبار والخارقين للقانون كالولاياتالمتحدة وإسرائيل وروسيا والصين. وإذا ما تمعّنا في النظام الأساسي للمحكمة نجده يستبعد اخطر الجرائم من اختصاص المحكمة مثل جريمة الإرهاب وجريمة استعمال أسلحة الدمار الشامل وجرائم غسل الأموال والاتجار في المخدرات. ولكن الأخطر من ذلك فان ممارسة المحكمة لاختصاصها قد وقع تسييسه بامتياز وخاصة مؤسسة الادعاء العام التي يمثلها اليوم موريس أوكامبو أضف إلى تدخل مجلس الأمن في اختصاص المحكمة. وللوقوف على جميع تلك الحقائق جدير بنا أن نتعرض أولا إلى تسييس ممارسة المحكمة لاختصاصها وثانيا إلى تزييف العدالة الجنائية الدولية . أولا: تسييس ممارسة المحكمة لاختصاصها: خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الوراء: تختص المحكمة بالنظر في جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان حسب منطوق الفصل 5 من نظامها الأساسي . أما ممارسة الاختصاص فقد حددها الفصل 13 من نظامها الأساسي وتعود إلى الدولة العضو في النظام الأساسي حينما نحيل الجرائم على المدعي العام (فقرة أ) أو مجلس الأمن عملا بأحكام الفصل السابع الميثاق (فقرة ب) أو بواسطة المدعي العام من تلقاء نفسه يمكنه إثارة تلك الجرائم أمام المحكمة (فقرة ج) . تسييس مؤسسة الادعاء العام: اوكامبو الأسد والأرنب في ذات الوقت نحن بصدق لا ندافع لا عن عمر حسن البشير ولا عن العقيد القذافي اللذان اصدر في شانهما المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية مذكرة إيقاف ولكن ندافع عن الحقيقة والحق والعدالة والمساواة أمام القانون إذ ليس من المعقول أن يستأسد المدعي العام في الخرطوموطرابلس ويصدر مذكرات إيقاف ضد رؤساء دول بسرعة شديدة خاصة في ليبيا دون إرسال محققين وباعتماد تقارير صحفيّة وبعد شهر تقريبا لكن في المقابل يصمت ويتصرف تصرف الأرنب حول الفسفور الابيض الذي استعمل في الفلوجة في العراق سنة 2004 الذي يؤدي الى حد الآن الى ولادة أطفال مشوهين ويصمت كالأرنب حول حالات التعذيب في ابو غريب العراق وڤوانتنامو رغم أن الوثائق أثبتت ذلك ويصمت حول جرائم الحرب والعدوان وجرائم ضد الإنسانية التي قامت بها القوات الأمريكية والبريطانية اثر احتلال العراق سنة 2003 إذا كان عليه إصدار مذكرات إيقاف ضد جورج بوش الابن وكونداليزا رايس ورامسفيلد وديك تشيني وبول وولفويتز وغيرهم. بل تصرّف أقل من الأرنب حول ما حدث في حرب غزة في ديسمبر 2008 رغم تقرير قولدستون الذي تحدث عن الأسلحة المحظورة وجرائم الحرب والإبادة التي قام بها الجيش الاسرائيلي ولم يصدر مذكرة توقيف ضد ايهود باراك وتسيبني ليفني واشكينازي وايهود اولمرت . الرجل الأرنب يبدو انه يستأسد إلا ضد الدول الإفريقية والعربية وتحديدا كلما كان هناك أمل في السلم بين القوى المتناحرة داخل تلك الدول ليؤجج نار الصراعات، فأججها بين البشير والانفصاليين في إقليم دارفور السوداني لمّا كانت المفاوضات تتقدّم بنجاح في الدوحة وهاهو اليوم يؤججها بين العقيد والمتمردين في بنغازي ليغلق باب الحوار بين الأطراف وما انصحه به هو أن يعتبر بمقولة وزير التجارة الكمبودي «شام براسديتش» في قضية الخمير الحمر في كمبوديا في 25/12/1998 حينما تمت المطالبة بمحاكمة قائدين من الخمير الحمر وهم «كيوسا نفان» و»نيون شيا «حيث قال: «الذين يريدون محكمة دولية لا يريدون السلام» وأضاف رجل القانون الكمبودي في جريدة لومند ديبلوماتيك الفرنسية المنشورة في مارس 1999 « بالنسبة لنا السلم هو أولوية الأولويات وإذا كان من الممكن تحقيقه مع تحقيق العدالة يا حبّذا ولكن لا يمكننا المخاطرة بوضع السلم في خطر بأي ثمن كان.» تسييس إحالة الجرائم على المحكمة من طرف مجلس الأمن عملا بأحكام الفصل السابع: الكبار يرفضون المحكمة والمحاكمة لسائل أن يسال كيف في الوقت التي تكون فيه الولاياتالمتحدة والصين وروسيا دول غير مصادقة وغير منتمية للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وهي في الآن نفسه يمكنها الاعتماد على الفصل السابع عبر مجلس الأمن لتوجه تم جرائم الحرب والعدوان والإبادة والجرائم ضد الإنسانية ضد أفراد ينتمون لدول أخرى ولكن بالمقابل فان تلك الدول يمكن أن تكون عائقا أما إحالة مجرمي الحرب على المحكمة باستعمالها لحق الاعتراض. وإذا ما عدنا إلى التبريرات مثلا الأمريكية حول عدم انتمائها إلى النظام الأساسي للمحكمة نجدها نابعة من التخوفات من العمليات العسكرية التي يقوم بها جنودها في كافة أنحاء العالم إذا صرّح السيناتور» جيس هالمس» قائلا: «كيف سيكون موقف المحكمة حيال التدخلات الأمريكية في بنما أو طرابلس أو بغداد، ألا يمكن أن تدين قواتنا؟» وهي نفس التخوفات التي ساقتها إسرائيل وبررت عدم انضمامها للنظام الأساسي للمحكمة باعتبار وان المادة 8 فقرة 2-VIII من نظامها الأساسي تعتبر «جريمة حرب كل نقل بالقوة من طرف قوة محتلة لجزء من السكان المدنيين في الإقليم المحتل أو نقلهم وطردهم بالقوة داخل أو خارج الإقليم المحتل .» وهو ما ينطبق على الأعمال الإسرائيلية في فلسطين الآن. وتأسيسا على ذلك فلا ننتظر أن يحيل مجلس الأمن الجرائم الأمريكية في العراق أو أفغانستان على المحكمة الجنائية الدولية لان الأمر سيعيقه النقض الأمريكي الذي سيعيق أي محاولة لإحالة الجرائم الإسرائيلية على المحكمة الجنائية الدولية هذا إضافة كما سبقت الإشارة إليه، إلى سياسة الأرنب الذي يعتمدها المدعي العام إذا ما تعلق بجرائم أمريكية أو إسرائيلية في العراق أو في فلسطين. ثانيا: تزييف العدالة الجنائية الدولية: الحرب الجوّالة وإلتباس العدالة أي عدالة جنائية يتحدث عنها المتشدقون والمهلّلون بإنشاء محكمة جنائية دولية في الوقت الذي صالت وجالت وقصفت وقتلت الطائرات الأمريكية في العراق وأفغانستان وليبيا اليوم وصالت وجالت قوات الأطلسي من كابول إلى بغداد إلى طرابلس وقتلت الآلاف أمام صمت الادعاء العام للمحكمة الجنائية الدولية ومجلس الأمن ذاته. وأي عدالة أمام القصف اليومي الإسرائيلي للمدنيين المحاصرين في غزة قبل وبعد حرب ديسمبر 2008 والتهجير والتقتيل لباقي المدنيين الفلسطينيين. وأي عدالة أمام فضائع سجني أبو غريب وڤوانتنامو . وها نحن لم نسمع ولن نسمع يوما بمذكرة إيقاف ضد بوش الابن أو رامسفيلد أو اشكينازي أو ايهود المرت أو تسيبني ليفني أو توني بلار ومرت إذن الحرب على العراق في مارس 2003 دون إذن من مجلس الأمن بدون عقاب للقادة السياسيين والعسكريين الأمريكيين كما مرت حرب الإبادة على غزة في ديسمبر 2008 دون عقاب للقادة العسكريين الاسرائليين كما ستمر حرب الأطلسي في أفغانستان وفي ليبيا اليوم التي تمثل جريمة عدوان واضحة في خرق واضح لمنطوق القرار 1973 كذلك دون عقاب وهاهي المحكمة الجنائية الدولية يقع تسييسها مثلما وقع تسييس مجلس الأمن لتصبح سيفا مسلطا على العرب والأفارقة دون سواهم في ظل عالم محكوم بقانون القوة وليس قوة القانون عالم محكوم بنيران قوات الحلف الأطلسي وطائراته وليس بقواعد القانون والعدالة الواردة بالنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي باتت أسدا هنا وأرنبا هناك. الأستاذ علي الهرابي ( محامي بسوسة وباحث في القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني)