تحدّثنا منذ يومين عن فضيلة الصّمت، ونتحدّث اليوم عن مقابله ومتزامنه: السّماع: السّماع لغويا هو الإنصات والإدراك بحاسّة الأذن. أما إصطلاحا فالسّماع يحيل إلى حلقات الإنشاد الديني وهو، كما عرفه المتصوّفون أنفسهم، «رياضة عمليّة بقصد ترقيق القلب تهيئته بإثارة نار الوجد وتزكيّة نار الحبّ والشوق للّه تعالى»(1). ولقد طوّرت الطريقة «المولويّة»(2) السّماع وأدخلت فيه معزوفات على آلات عديدة منها النّاي والقانون بعد أن كان من قبل مقتصرا على آلة الدفّ. ولنا في تراثنا التونسي نماذج موسيقية تدلّ على التأثير التصوّفي العثماني ومنها «البشارف» و«السماعيات». وهدف السّماع هو الوجد والوجد هو الانفعال التلقائي للقلب لسماع الذّكر أو الشعر فيمرّ السّامع من «القال» إلى «الحال». ولقد قيّد الصّوفية الوجد بالضوابط المحمّدية وقالوا: «كلّ وجد لا يشهد له الكتاب والسُّنة فهو باطلٌ». من هذا المنطلق اعتمد المتصوّفون على أحداث وأحاديث نبوية لتشريع السّماع باعتباره داعيا للتواجد ومن ثمّة للوجد. ومن هذه الأحداث أن الرسول (صلعم) لمّا استمع إلى قصيدة الشاعر كعب بن زهير التي أنشدها إياه في المسجد والتي مطلعها: بَانَتْ سُعادُ فقلبي اليوم متْبُول * مُتَيّم إثرها لم يُفد مَكبُولُ إلى أن وصل إلى البيت: إنّ الرسولَ لسيفٌ يُستَضَاءُ بِهِ * مُهَنَّدٌ من سيوف اللّه مَسْلُولُ فطرب الرسول (صلعم) ورمى إليه ببردته. ومن الأحاديث ما أخرجه السّهروردي(3) في كتابه عوارف المعارف ما نصّه: عن أنس بن مالك قال: كنّا عند رسول اللّه (صلعم) إذ نزل عليه جبريل عليه السلام فقال: يا رسول اللّه إن فقراء أمّتك يدخلون الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم هو خمسمائة عام. ففرح الرسول اللّه (صلعم) فقال: هل فيكم من ينشدنا؟ فقال بدويّ: نعم يا رسول اللّه. فقال رسول اللّه: هات. فأنشد الأعرابي: لقد لَسَعَتْ حيّةُ الهوى كبدي * فمَا طَبِيبٌ لها ولا راقي إلاّ الحبيبُ الذي شغفْتُ به * فعنده رقيتي وترْياقي فتواجد رسول الله (صلعم) وتواجد الأصحاب معه حتى سقط رداؤه عن منكبه، فلمّا فرغوا آوى كل واحد منهم إلى مكانه. فقال معاوية بن أبي سفيان: ما أحسن لعبكم يا رسول اللّه. فقال (صلعم) «اسكت معاوية ليس بكريم من لم يهتزّ عند سماع ذكر الحبيب، ثم قسّم رداءه على حاضرهم بأربعمائة قطعة». ويستخلص من هذا أن النبي وأصحابه كانوا يتجاوبون مع اللّفظ الحسن ويتفاعلون حدّ الاهتزاز والوجد. لذلك صنّف المتصوّفون السّماع إلى محرّم إذا كان مثيرا للشهوات، مكروه إذا اتّخذ وسيلة للهو وإضاعة الوقت، مُباحا إذا استعمل للاستمتاع بالصوت الحسن ومستحبّا إذا ما كان الهدف منه التقرّب إلى اللّه. ولقد أدرك المتصوّفون سريعا الابعاد التربوية والترفيهية للسماع، إضافة إلى قيمته الروحانية الأساسية باعتباره منبّها يساعد على كشف ما لم يكن مكشوفا. كما يقول أبو حامد الغزالي. ويضيف صاحب «احياء علوم الدين» هذا القول الذي جرى مضرب الأمثال: «من لم يحرّكه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره فهو شخص مريض فاسدُ المزاج ليس له علاج». وفعلا فقد كان العلماء المسلمون، وأولهم ابن سينا أول من استعمل الموسيقى عزفا وغناء لمعالجة الاكتئاب أو «الملاخوليا» (La mélanclie) بحوالي عشرة قرون قبل ظهور العلاج بالموسيقى المتبع اليوم (La musicothérapie). طوّر علماء التصوّف السّماع ووضعوا له آدابا وقواعد وأضاف إليه بعضهم الرقص مثل مولايا جلال الدين الرومي. واعتبر العلماء أن هذا الرقص مشروع لأن هدفه الذكر والخشوع عملا بالآية الكريمة من سورة آل عمران: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ﴾. وقد كان أصحاب رسول الله (صلعم) إذا ذكروا الله تمايلوا كما يتمايل الشجر في يوم الريح العاصف. فاللحن والكلمة الجميلة والحركة المتناسقة كلها عبادة لأنها تعيد الإنسان إلى ذلك الصفاء الأول المطبوع في نفسه منذ خلقه. ألم تر أن الرضيع إذا ناغيته هدأ وانتبه وطرب؟ 1) «انظر دراسة» الدكتور الأخضر قويدري: السماع الصّوفي 2) نسبة إلى مولايا جلال الدين الرومي 3) السهّروردي: هو شهاب الدين السّهروردي البغدادي من كتاب متصوفي القرن الثالث عشر ميلادي