تعتبر تونس في المنطقة العربية والدول النامية رائدة في سياستها التنموية الاجتماعية فقد بادرت دولة الاستقلال والحكومات التي تلتها بوضع سياسات وبرامج شكلت منظومة اجتماعية عالجت آفة الفقر وسعت لوضع تصورات وآليات تنفيذية لتحسين ظروف عيش الانسان التونسي في تلك المرحلة. ولتنفيذ هذه المنظومة تم تخصيص موارد مالية هامة من خلال التحويلات الاجتماعية علاوة على اعداد ترسانة قانونية وترتيبية مناسبة مما افضى الى تسجيل نتائج هامة علاوة على ما مكنه التدخل العمومي في المجال الاجتماعي من ترسيخ الأثر المباشر للنمو الاقتصادي على تراجع الفقر وهو ما سمح لتونس بتحقيق الأهداف الالفية للتنمية في مجال مقاومة الفقر وقد تميزت هذه المنظومة خاصة بنظام الضمان الاجتماعي التي كانت نموذجا اهتدى به عدد من الدول مثل المغرب والسينغال وغيرهما.. إلا أن ثورة جانفي 2011 ذات البعد الاجتماعي العميق هي الأخرى قد كشفت الضعف الهيكلي ومحدودية هذه السياسة الموصوفة بالفوارق الاجتماعية الواضحة وبالتالي غياب العدالة الاجتماعية. لقد كرست هذه الثورة ملامح ومكونات المشروع المجتمعي التونسي الجديد المبني على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة والإنصاف كقيم أساسية ومبادئ تؤمن بناء منوال تنمية شامل ودامج وقد تجسمت هذه المقاربة التوافقية بإقرار العقد الاجتماعي الممضى في 14 جانفي 2013 بين الحكومة والاطراف الاجتماعية وإصدار الدستور الجديد في 27 جانفي 2014 وإعداد المخطط الاقتصادي والاجتماعي 2016 – 2020. ونتيجة لذلك تضمن مخطط التنمية الاقتصادي والاجتماعي الجديد محورا للتنمية البشرية والادماج الاجتماعي مسندا للدولة دورا استراتيجيا في مجال دعم التماسك الاجتماعي ومقاومة الفقر وتقليص الفوارق الاجتماعية الجهوية وإعادة النظر في نظام الضمان الاجتماعي. فقد كشف التشخيص الذي تم والمعطيات الاحصائية بعد ثورة 2011 بلدا مقسما الى اقليمين: المناطق الساحلية التي تسجل مؤشرات تنمية تفوق المعدل الوطني والجهات الداخلية والغربية ذات المؤشرات التنموية الضعيفة. مما يترجم انخراما في التوازن بين الشريط الساحلي التونسي والمناطق الداخلية بتمركز ثلثي السكان و87 % من النشاط الصناعي و90 % من الأنشطة السياحية بالمناطق الساحلية. وقد أبرزت هذه المعطيات الإحصائية خاصة بقاء نسبة الفقر مرتفعة رغم ما شهدته من تراجع وقد سجل المسح الوطني حول الميزانية والاستهلاك ومستوى عيش الأسر التونسية لسنة 2015 نسبة فقر جملية تقدر ب 15.2 %، ونسبة فقر مدقع ب 2.9 %. ويزداد الوضع ترديا على المستوى الجهوي وداخل الجمهورية من خلال نسبة الفقر المرتفعة المسجلة بمناطق الوسط الغربي والتي قدرت ب 30.8 % سنة 2015، يليه الشمال الغربي التونسي الذي قدرت فيه نسبة الفقر ب 28.4 % والجنوب الغربي بنسبة 17.6 %. مع بروز مؤشر الفقر المدقع في هذه المناطق لتبلغ نسبته 8.4 % علاوة على بروز تفاقم البطالة التي تجاوزت 15.3 % خلال سنة 2017 خاصة لدى حاملي شهادات التعليم العالي بنسبة 31.2 % ولدى الفتيات منهم بحوالي 40 %. وقد سجلت بعض الجهات الداخلية على غرار القيروان وقفصة وتطاوين وجندوبة نسبا قصوى للبطالة تجاوزت في بعضها 32 %. وهو ما عمق الفوارق بين الوسطين الحضري والريفي. وكان سببا مباشرا في بروز ظواهر اجتماعية جديدة على المجتمع التونسي. أهمها ظاهرة «الحرقة» أو الهجرة غير الشرعية، والاقتصاد الموازي وانتشار العنف والجريمة والانقطاع المدرسي المبكر وصولا الى ظاهرة الانتحار في أوساط الشباب والأطفال... وتبعا لذلك اعتبر المختصون هذا الوضع نتيجة حتمية لتلاشي المنوال الاقتصادي ولنقص التنسيق والتكامل بين مختلف البرامج الاجتماعية التي تم وضعها بالإضافة الى غياب التقييم الالي والمنتظم لأثر هذا المنوال التنموي على الفئات الاجتماعية المعنية. والواقع فقد عملت الدولة التونسية على تجاوز هذه الصعوبات وشرعت هياكلها وأجهزتها وفي مقدمتها وزارة الشؤون الاجتماعية والأطراف الاجتماعية في القيام بجملة من الإصلاحات بالاعتماد على العقد الاجتماعي سالف الذكر الذي يأخذ بعين الاعتبار تطلعات الفئات الاجتماعية الهشة وحقيقة الوضع الاقتصادي بالبلاد. وستمثل في هذا المجال « أجندا 21 « للأهداف الجديدة لسنة 2030 إطارا سياسيا ومؤسساتيا وأخلاقيا لبذل كل الجهود من أجل منع الفقر متعدد الأبعاد استئناسا بالتجارب الناجحة على غرار تجارب البرازيل والفياتنام وتركيا وغيرها كما باشرت الدولة التونسية اصلاحا عميقا لنظام الضمان الاجتماعي باعتباره آلية هامة لمقاومة الهشاشة الاجتماعية. وبالنظر الى كل ما سبق أطلقت تونس استراتيجية جديدة للإدماج الاجتماعي ومقاومة الفقر متعدد الابعاد أبرز مقوماتها قيام هيكل متعدد الاختصاصات تحت مسمى «الوكالة الوطنية للإدماج الاجتماعي ومقاومة الفقر» تخضع لإشراف رئاسة الحكومة، ومأسسة آليات التدخل المشتركة وإعادة تنشيط مقاربة التنمية الاجتماعية والمجتمع المحلي، والحد من نسبة الفقر وخاصة بالجهات الداخلية المهمشة، واستنباط واستحداث برامج جديدة وآليات مبتكرة من شأنها ان تسهم في تحقيق العدالة الاجتماعية علاوة على وضع جملة من البرامج والآليات لتجسيم هذه الأهداف. هذه الاستراتيجية الجديدة التي انطلقت ببعد تشاركي تنخرط فيه مختلف الأطراف الاجتماعية والحكومية تكمن اضافتها في اعتبار الفقر ظاهرة متشابكة يتداخل فيها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي. والتي جاءت لتعزز منظومة الاستراتيجيات القطاعية الأخرى التي أطلقتها وزارة الشؤون الاجتماعية على غرار الاستراتيجية الوطنية للهجرة واستراتيجية ثقافة المؤسسة والمدن العمالية والتصرف الألكتروني والمعلوماتي والاستراتيجية الوطنية لمحو الأمية وتعليم الكبار.