1 نوفمبر 1954 1 نوفمبر 2018 بعد 64 عاما نذكّر بإحدى صفحات المجد والفداء بين الشقيقتين تونسوالجزائر. لقد اندلعت الثورة الجزائرية المسلحة في وقت بلغت فيه الدعاية الفرنسية وأبواق أعلامها درجة قصوى ضد الشعب الجزائري. فأدرك قادتها ان نجاح الثورة والكفاح المسلّح رهين ايضا بإنارة الرأي العام لاسيما في الخارج وصولا الى تدويل القضية ومجابهة عدوّ عريق في المجالين العسكري والاعلامي. وفي بداية الثورة الجزائرية لم تكن للأشقاء إذاعة خاصة بثورتهم فاعتمدوا على إذاعات الدول العربية الشقيقة وفي مقدمتها تونس. وفي ما يلي صفحات مجهولة أو مسكوت عنها عن دور تونس والرئيس الحبيب بورقيبة في دعم الاعلام الجزائري إبّان الثورة المسلحة. من التعسف على تاريخ الحركات التحررية في المغرب العربي الاقتصار على مقولة «دعم تونس المستقلة للكفاح التحريري الجزائري». فالأصلح والأصوب أن يقال ويؤرخ: «مساهمة تونس في الثورة الجزائرية من سنة 1954 الى سنة 1958 بما تؤيده الوثائق المتوفرة وما أكثرها انصافا للتأريخ. فالدعم والمساندة اتسما بالشمولية والاستمرار ماديا بقدر الامكان ونضاليا ايضا على المستويات الرسمي والحزبي والشعبي والجمعياتي والدبلوماسي والاعلامي وخاصة الجهادي سواء بالسلاح المتبقي لدى المقاومين التونسيين أو بمشاركة البعض من «الفلاّقة» للمجاهدين الاشقاء في المقاومة او بضمان عبور الاسلحة الآتية من الشرق العربي عبر الحدود الجنوبية وتمريرها الى جيش التحرير الجزائري في كامل الخط الحدودي المتاخم لولاية الكاف وايضا بإيواء عناصر جبهة التحرير سواء للعلاج او التخفي او الاستراحة «غار الدماء ساقية سيدي يوسف الكافتاجروين» وصولا الى الدعم الاعلامي موضوع هذا التحقيق. وكان على كاهل الحكومة التونسية في فجر الاستقلال واجب الوفاء لعدة عوامل تاريخية وأخوية أهمها الجوار، ومنها خاصة امتزاج الدم بالقرابة والمصاهرة كما في الساقية، وتاريخيا لما ساهمت هجرة الجزائريين الى تونس اثر الاحتلال سنة 1830 وخاصة اثر قمع ثورة المقراني سنة 1870، بقسط كبير في تكوين جالية جزائرية انصهرت بكل تلقائية في النسيج البشري والحضري التونسي. وتألقت منها نخبة في مختلف أنشطة المشهد الوطني في تونس اثر الحرب العالمية الأولى ومنها بالخصوص عائلات الثعالبي والمدنيّ والقلاّلي والجزيري والقسنطيني. وفي سنة 1956 بلغ عدد أفراد الجالية الجزائرية في البلاد التونسية 66 ألفا و845 نسمة حسب ما أورده المؤرخ Marcous بينما تشير وثائق الارشيف الوطني في تونس الى أن عدد اللاجئين الجزائريين بلغ سنة 1957 قرابة 250 ألف نسمة منهم 65 ألفا من النسوة و40 ألفا من اليتامى علاوة على عدد كبير من الطلبة الزيتونيين القاطنين معنا في الحي الزيتوني أو في المبيتات المعبّر عنها ب (المدارس) في مدينة تونس. ومن مظاهر هذا الانصهار الأخوي انه عقب تشكيل حكومة الاستقلال برئاسة المجاهد الأكبر في أفريل 1956، تأسست لجنة دينية للدفاع عن المضطهدين المدنيين الجزائريين وإعانة اللاجئين منهم برئاسة مفتي الديار التونسية الشيخ محمد العزيز جعيّط ومن بين أعضائها الشيخ علي الأخضر القاضي الحنفي بعاصمة الجزائر كنائب أول للرئيس. وحدّث ولا حرج عن رجال وعلماء جزائريين تخرجوا من جامع الزيتونة المعمور، من بينهم الشيخ عبد الحميد بن باديس والأديب الكبير أحمد توفيق المدني وغيرهما. لنعد الآن إلى تحديد الظرف الزماني إذ هناك دولة تونسية بصدد التأسيس اثر الاستقلال، وثورة ناشئة في الجزائر، وقد أصبح التنسيق بين السلطة التونسية ومكتب جبهة التحرير في تونس اكثر متانة وخاصة اثر اللقاء الذي تم في القاهرة خلال شهر جوان 1956 بين المناضل الجزائري أحمد توفيق المدني بالمناضلين التونسيين الباهي الأدغم والرشيد ادريس، وكذلك عملا بالاتفاق المبرم في 22 جوان 1957 في ليبيا بين وفد جزائري مؤلف من أحمد توفيق المدني ومحمد أمين الدباغين ووفد تونسي بعضوية الصادق المقدم والطيب سليم. وأهم بند في هذا الاتفاق يقضي بتعهد الحكومة التونسية بنقل الاسلحة الى الثورة الجزائرية عبر الحدود وضمان تسليمها لمن تعيّنه جبهة التحرير. الدعم الإعلامي لابدّ هنا من الاشارة الى بعض ما جاء في مذكرات المناضل الجزائري محمد لبجاوي الذي ساهم بقسط كبير في توطيد هذه اللحمة الأخوية حيث يقول: (بهذه الروح تابعت سنة 1955 حركة الحبيب بورقيبة الذي كنت أجد فيه منذ زمن بعيد، ليس رجلا خارق الذكاء فحسب، بل وطني ومغاربي كبير) الى أن يؤرخ: (لذلك أخذتُ مبادرة الاجتماع به وهو على رأس اول حكومة بعد الاستقلال. فحدثته طويلا عن واقع الجهاد المسلح في الجزائر وعن جبهة التحرير وأهدافها السياسية. ثم انه تناول في حديثي معه نقطة يبدو أنها كانت تهمه بشكل خاص فقال لي: «الدعاية الاستعمارية لا تكف عن الترديد أن جبهة التحرير جسم بلا رأس ولا يعرف من يقودها ولا هيكلتها ولا ماذا تريد. فلماذا لا تعلنون جهارا ما استمعتُ اليه منك الآن والبرنامج الذي رسمته أمامي! فهو لو كان معروفا سوف يعزز قوّتكم تجاه الرأي العام ويجعل حركتكم أكثر فاعلية». ثم سألني إن كنتُ أقبل أنا محمد لبْجاوي أن أكرّر ما قلته له في إطار مقابلة صحفية تنشر باسم قيادة جبهة التحرير فأجبته : «نعم». فأكد لي أنه بإمكاننا الاعتماد عليه في أي وقت، ليتجلى هذا التعاون بشكل محسوس، فما كان منه الا أن أعدّ مع البشير بن يحمد سلسلة من الاسئلة وأجوبتها الواضحة والخالية من كل مواربة والهادفة إلى تنوير الرأي العام لإنجاز هذا العمل الاعلامي. والواضح هنا كما قال محمد لبجاوي أنه تم تكريس ما تم الاتفاق عليه بالضبط كما دلّت عليه عبارات بورقيبة التي سمعتها منه وهي: «الدعاية الاستعمارية / تعلنون جهارا / يعزز قوتكم أمام الرأي العام / يجعل حركتكم أكثر فاعلية / ينشر في مقابلة صحفية» وذلك ما تم!! وهكذا فُتح الباب أمام العديد من حملة الأقلام الجزائريين المقيمين بتونس للتعريف بالقضية الجزائرية وبمبادئ الثورة المسلحة وبرنامج جبهة التحرير بتنسيق مع مكتبها في تونس وبهمة ثلة من المجاهدين بالفكر والقلم أمثال الجزائريين عبدالله شريّط في المستوى السياسي، والشاعر مفدي زكريا والكاتب أحمد توفيق المدني في الجانب الأدبي هذا علاوة على ما كان من التعبئة الاعلامية في الصحف بأقلام تونسية مساندة للقضية الجزائرية وبالشعر ايضا كما فعل المرحوم منور صمادح. صوت الجزائر الحرة... صوت الثورة الجزائرية لما اشتدّت المقاومة الجزائرية، ازداد غيظ اللوبي الاستعماري الفرنسي، وتحرّش جيشه بتونس المستقلة على طول الحدود كردّ فعل على الدعم الاعلامي والدبلوماسي الذي «تجرّأت» الدولة التونسية الفتية على تكريسه نصرة للاخوة الأجوار. ففي 20 أفريل 1956 كُلّف الصحفي والمذيع القدير عبد العزيز العروي بإدارة القسم العربي للإذاعة فكان لأسماره حول الثورة الجزائرية والحرب التحريرية وقع كبير في المشهدين السياسي والاعلامي، لا فقط على المستوى المغاربي، ولكن ايضا في العالم العربي قاطبة (46 سمرا خلال سنة 1957 و37 خلال سنة 1958) وهي محفوظة حاليا بالمعهد الأعلى للحركة الوطنية. وكانت الاذاعة التونسية قد شرعت قبل في بث برنامج : (صوت الجزائر الحرة: صوت الثورة الجزائرية) الذي أثار ضجة اعلامية وأزمة بين الحكومتين التونسية والفرنسية. بدأت هذه الاذاعة بثها مساء الأحد الأول من جويلية 1956 ببرنامج تعبوي يتصل بأخبار المقاومة الجزائرية. وقد رأت حكومة فرنسا أن لهجة هذا البرنامج الاذاعي كانت حادة جدّا ضد سياسة فرنسا في الجزائر. وكان بورقيبة رئيس الحكومة التونسية في فرنسا منذ 25 جوان 1965 يحاول استئناف التفاوض الذي كان متقطعا بسبب الخلاف بين الطرفين حول خياري التكافل والاستقلال التام أيهما يسبق الآخر؟ وما أن علم المجاهد الأكبر بتبرّم الجانب الفرنسي من (صوت الجزائر الحرة) في الاذاعة التونسية حتى تظاهر بإبداء التفهم وعرض على كاتب الدولة الفرنسي للشؤون المغربية والتونسية تغيير عنوان البرنامج ليصبح هكذا: (صوت الجزائر العربية الشقيقة) ولكنها لم تنطل لأن المحتوى لم يتغيّر، مما حدا بممثل فرنسا في تونس الى تقديم لائحة احتجاج في لهجة تضمنت مسا حقيقيا للعواطف.. بأكثر من عبارات البرنامج الاذاعي الجزائري. وبإشارة من بورقيبة قررت الحكومة التونسية رفض هذا الاحتجاج والإبقاء على هذه الحصة الاذاعية اليومية كجواب على ما يدعيه الجانب المقابل من أن الجزائر أرض فرنسية. وهي مسألة لا تقبل النقاش بالنسبة الى تونس. وكان لهذا الحادث صدى كبير في الصحافة التونسية ونظيرتها الفرنسية وكتبت جريدة Le Figaro: «إنه من المفيد ان يُلفَت نظر رئيس الحكومة التونسية الى ان محطة اذاعة تونس مازالت ملكا من أملاك الحكومة الفرنسية (عن جريدة العمل بتاريخ 4 جويلية 1956) لكن هذه الصحيفة الناطقة بلسان الحزب الدستوري كتبت تقول: «هذه المسألة الاذاعية قضية داخلية بحتة لا تهم سوانا. فنحن أحرار في ضبط برنامج اذاعة تونس كما نريده ونرتضيه. ولا يجب ان يكون تجهيز الاذاعة من طرف فرنسا مبررا للتدخل في عواطفنا ومشاعرنا بأي حال». وبقيت الاشارة الى أن المشرف والمنفذ والمذيع الاساسي لإذاعة (صوت الجزائر العربية الشقيقة) كان الشاب الجزائري عيسى المسعودي رحمه الله. وقد أدركته شخصيا وساعدته بالقلم والإلقاء في بعض النصوص وكانت المادة الاساسية في البرنامج ومدته ساعة: تعليقات ساخنة وحماسية ضد الاستعمار، وأخبار المجاهدين وانتصاراتهم، وأضواء على برنامج جبهة التحرير. ويبدأ البرنامج وينتهي بالنشيد الوطني الجزائري (قسما بالنازلات الماحقات / والدماء الزاكيات الطاهرات / نحن ثرنا فحياة أو ممات / وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر / فاشهدوا فاشهدوا) كلمات الشاعر الجزائري مفدي زكريا ويتخلل فقرات البرنامج نشيد (الله اكبر فوق جور المعتدين) ودام هذا البرنامج الى سنة 1959. هذه إذا صفحات لا تنسى ومواقف بورقيبة خالدة لابدّ من إثباتها حتى لا تطمس أو تنال منها محاولات الحارثين في البحر. فقد تمكنت هذه الآلية الاعلامية خلال الثورة الجزائرية من اسماع صوت النضال والفداء باسم المليون شهيد الى خارج حدود الجزائر، مما أعطى للكفاح المسلح الجزائري دفعا قويا لدى الرأي العام الفرنسي والأوروبي والأمم المتحدة وكان له صدى وأيّ صدى في يقين الجنرال ديغول نفسه... الى أن تمكنت الجزائر من نيل استقلالها وانعتاقها. وقد كنتُ شخصيا شاهد عيان بتغطيتي اعلاميا في عاصمة الجزائر للاستفتاء الذي نظمته فرنسا وآل الى الإقرار بحق الجزائر في الاستقلال، ومباشرة أعلن النظام الجمهوري يوم 1 جويلية 1962.