بغض النّظر عمّا ستؤول اليه الامور في الجزائر والتي يبدو أنها تسير في الطريق الصحيح، فإن الأزمة كشفت عن مدى وعي الشعب وأخذه العبرة مما عاشته دول الجوار سابقا على أحسن وجه لذلك كانت الحضاريّة في التصرّف و الالتفاف حول المؤسسة العسكرية والحفاظ على مؤسسات الدولة أبرز الدروس. المسيرات المليونية التي تدخل جمعتها السابعة، ضربت مثالا في التحضّر والوعي وعدم الخروج عن الهدف الاساسي وهو الاحتجاج من أجل التغيير في كنف القانون والاحترام وليس الفوضى والغوغاء والهدم. كما إنها ضربت مثالا في الحفاظ على زخمها سواء من حيث الحضور أو التشبّث بسياق المطالب التي يريد الشعب تطبيقها لإرساء جزائر جديدة تتماشى مع الأجيال الصاعدة وتحقّق طموحاتها وتتلاحم معها في القضايا الوطنية والاقليمية والدولية. لذلك لم تحضر تلك الصورة المقزّزة للحرق والتكسير والنهب والاعتداء كما شهدتها شعوب اخرى خلال ما يسمى بالربيع العربي، بل كانت ربيعا آخر تجلى في صورة حب الوطن قولا وفعلا. ومع دخول الجيش الجزائري على خط الأزمة برز عنصر آخر أضاف للأزمة في الجزائر بعدا وطنيا حقيقيا يحرص فيه الجميع على مصلحة الوطن وهو التفاف الشعب وراء المؤسسة العسكرية. الشعب الجزائري فهم الرسالة جيدا ظاهرا وباطنا من «قطار الربيع العربي» وعرف أنه ان خسر المؤسسة العسكرية ودخل في صدام معها فإنه لا يمكن الحديث بعد ذلك عن وطن بل عن خراب لا يستثني ولا ينفع أحدا. لذلك ظلّ يسترشد بتوجيهات المؤسسة العسكرية التي احتكمت واصطفت بدورها الى جانب الشعب وعرفت أن التغيير أمر ضروري لا مفر منه وارتأت أن تأخذ زمام المبادرة وتنظمّ الى الشعب لملء الفراغ بينه وبين السلطة لقطع الطريق على المتربصين. وكان لافتا التصريحات التي ما فتئ يطلقها «الرجل القوي» قايد صالح وهو العارف بخبايا المؤامرات الدولية التي تستهدف بلاده والتي قد تعيدها الى مربع العنف الذي شهدته خلال حقبة التسعينات. ومع ضغط الشارع والمؤسسة العسكرية يبدو أن الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة سوف ينصاع أخيرا الى مطالب الشارع ويقرّر التخلّي عن الحكم قبل انتهاء ولايته الرئاسية يوم 28 أفريل الجاري. يبرز هنا سؤال ماذا بعد بوتفليقة؟ في هذه الحالة ودستوريا، يتولى رئاسة الدولة بالنيابة رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح لمدة 90 يوما، تنظم خلالها انتخابات رئاسية لا يحق له الترشح لها. وهنا يحرص تحديدا المتظاهرون في الجزائر على تغيير سلس لا يهدم مؤسسات الدولة وإنما يدخل دماء جديدة لها ويبث فيها الروح للقضاء على الترهّل الذي أصاب الادارة والفساد الذي استشرى بالإضافة الى اعطاء البلاد مكانتها الصحيحة اقليميا ودوليا. لا شك أن رياح التغيير في الجزائر أمر لا مفرّ منه ومن حق كل شعب أن يرى بلاده بحجم أحلامه وطموحاته وقوته...غير أن التغيير الهادئ المبني على الحوار والوعي والوطنية هو السبيل الوحيد و الذي يتطلّب نفسا وصبرا طويلا.