لم تنخفض الأسعار رغم حملات الرّقابة، ولم تختف مظاهر الاحتكار والمضاربة والتلاعب بالمواد المدعمة رغم وعود الحكومة.. ليتضح من يوم لآخر أن الظاهرة تقف وراءها أطراف تدعمها وتحميها وتعرقل بالتالي عمل الحكومة في محاربتها.. تونس الشروق: منذ مدة والتونسيون يعيشون على وقع مفارقات غريبة: فمن جهة تقول الحكومة ان تزويد السوق بمختلف المواد، بما في ذلك المدعمة، يتم بشكل عادي وتقول ايضا إنها تعمل باستمرار على فرض الرقابة الاقتصادية والتجارية من أجل ضرب ظاهرة الاحتكار ومن اجل تخفيض الأسعار.. لكن من جهة أخرى، أصبح المواطن يعيش يوميا على وقع غياب بعض السلع، منها المدعمة، وأيضا وخاصة على الارتفاع الجنوني للأسعار.. مفارقة عجيبة تثير يوميا استغراب التونسيين ومختلف المتابعين وتثير موجات سخط واحتقان تجاه السلطة بسبب اتهامها بالضعف والهشاشة تجاه «مافيا» السوق وبعدم القدرة على تطبيق القانون. فإلى أي مدى يصحّ هذا الاتهام؟ هل صحيح ان الحكومة عاجزة وضعيفة تجاه «مافيا السوق»؟ أم أن الأمر يتجاوزها لأسباب أخرى؟ لا مشكل في الانتاج بشهادة المختصين والخبراء، فان تونس لا تشتكي عادة من ضعف الانتاج بالنسبة للمواد الاستهلاكية الحساسة، من خضر وغلال وحليب ولحوم وغيرها. كما لا تجد صعوبات في استيراد بعض المواد الحساسة التي لا يقع انتاجها بالشكل المطلوب في الداخل على غرار الحبوب والزيوت النباتية وهي مواد خاضعة لمنظومة قانونية وهيكلية كاملة تسمى منظومة الدعم. كما تقوم الدولة من حين لآخر بتوريد مواد أخرى لتعديل السوق.كل ذلك يدفع الى القول إنه مبدئيا لا شيء يدعو إلى غياب مواد عن السوق خاصة المواد المدعمة او ارتفاع اسعارها بشكل غير معقول. وقد جرت العادة مُنذ الاستقلال وخلال حقبتي بورقيبة وبن علي أن تحرص الدولة على تزويد السوق بمختلف المواد الاستهلاكية الحساسة بشكل مستمر ودون نقصان أو احتكار لأية مادة وبأسعار معقولة. مواد مفقودة وباهظة في الأشهر الأخيرة أصبح التونسيون يعيشون على وقع كابوس افتقاد بعض المواد الاستهلاكية الحساسة بما فيها المواد المدعمة وارتفاع أسعار مواد أخرى بشكل جنوني. وهو ما أدخل لخبطة كبرى على منظومة السوق وتسبب في حالة من الاحتقان والغضب لدى المواطن. ورغم ما وعدت به الحكومة في الفترة الاخيرة من انخفاض منتظر في الاسعار ومن عودة المواد المدعمة الى السوق، خاصة الزيت النباتي، ورغم ما قالته حول استهداف المخالفين والمتلاعبين بقوت المواطن، إلا أن ذلك لم يحصل. فقد حصل العكس تماما وتواصل ارتفاع الأسعار بشكل جنوني في الايام الاخيرة وتفاقمت ظاهرة فقدان بعض المواد المدعمة، مع تواصل المخاوف من امكانية فقدان مادة حساسة اخرى في الفترة القادمة او امكانية تواصل ارتفاع أسعارها. غطاء سياسي إذا كانت الحكومة بصدد محاربة مافيا السوق .. وإذا كانت منظومة مسالك التوزيع واضحة نسبيا ( رغم ما بها من اخلالات) وإذا كانت المنظومة القانونية تسمح بردع المخالفين ولو دون الصرامة المطلوبة .. وإذا كانت اجهزة الرقابة تعمل ولو ببعض النقائص.. إذن كيف تجد «مافيا السّوق» السبيل للنشاط بمثل هذه الحرية والتغول والاستقواء على الدولة والافلات من العقاب؟ لا يمكن تفسير ما يحصل في منظومة السوق إلا وفق فرضية واحدة حسب المختصين والمتابعين وهي أن هذه «المافيا» تجد سندا ودعما من أطراف فاعلة وقوية في الدولة توفر لها غطاء يحول دون مراقبتها او إيقافها أو معاقبتها. والأرجح حسب أصحاب هذا الراي أن هذه الاطراف الفاعلة لا يمكن ان تكون غير الوجوه السياسية من مختلف الانتماءات والتي تستغل إما وجودها داخل السلطة او علاقاتها القوية بالحُكّام وبكبار مسؤولي الدولة لتسهيل نشاط «مافيا السوق»، ولتوفير غطاء لهم، وكل ذلك بمقابل مالي. فبعض السياسيين اليوم تظهر عليهم بسرعة علامات الثراء، ليتضح في ما بعد أنهم ينشطون في مجال توفير الغطاء والحماية للعاملين في مجال الانشطة المشبوهة على غرار التهريب والفساد بمختلف انواعه الى جانب منظومة السوق. كما ان بعض الاحزاب تبدو بدورها مستفيدة من نشاط «مافيا السوق» وذلك من خلال تسهيل نشاطها ومساعدتها على الافلات من العقاب لكن مقابل توفير تمويلات هامة للحزب. كيف يكون تعاون بعض السياسيين والفاعلين مع «مافيا السوق» يكون تعاون السياسيين والشخصيات الفاعلة مع «مافيا السوق» وفق عديد المختصين من خلال ضمان عدم مضايقتهم وعدم مراقبتهم أو إيقافهم أو حجز سلعهم بل على عكس ذلك تُسندُ لهم التسهيلات والتشجيعات لإقامة مخازن تخزين السلع والمنتوجات الفلاحية واحتكارها ثم المضاربة بأسعارها في ما بعد. كما لا تقع مضايقتهم أيضا عند الاستفادة من المواد المدعمة لغير الاغراض المخصصة لها ابرزها مادة الفارينة ومادة الزيت النباتي التي بلغ الامر حدّ استغلالها بكميات مهولة في المجال الصناعي (صناعة الدهن) ولدى المطاعم ومحلات الاكلات المختلفة دون حسيب او رقيب ولا تصل بالتالي لمستحقيها. وحتى في صورة مثول البعض أمام العدالة، يقع أحيانا التدخل لفائدتهم من قبل هذه الوجوه السياسية التي تحميهم وهو ما يشجعهم على التمادي في أنشطتهم المخالفة. وفي المقابل، يحصل السياسي الذي تدخل على مقابل مالي هام أو على دعم مالي للحزب الذي ينشط فيه.