وعندما تنعقد محكمة المهداوي ويرتفع الستار عن أزلام السلطة وهم يتبارون في تدبيج قصائد تتغنى بدكتاتورها الأوحد ورجم معارضيه بأبشع السباب لن يتوانى صوت البعث عن تحمل مسؤولية العملية بغض النظر عن وجهات النظر التي تدعو إلى ما هو أفضل منها. إن النضال الشعبي هو أسلوب العمل الحزبي وقد يصل النضال الشعبي إلى أعمال عنف ثورية قد ترافقها حوادث قتل. وهذا أمر طبيعي. ولكن القتل المجرد كعملية اغتيال مثل الاغتيال السياسي أسلوب يتنافى مع عقيدة الحزب ويهدده بالانحراف... إن الحزب حينما يخطئ محاولة الاغتيال فإنه يعلن في نفس الوقت تقديره لبطولة الرفاق الذين ساهموا في تنفيذها بجرأة لاسيما أن جرأتهم خلال المحاكمة لم تمنع ظهور موقفهم المتمسك بعقيدة الحزب والإخلاص لأهدافه. ومع ذلك وبصرف النظر عن تقويم تلك العملية من الناحية السياسية العامة أو من الزاوية الإيديولوجية الخاصة لحزب البعث فإن الأمر الذي لا يمكن إنكاره أن المحاولة التي جرت ببسالة على أيدي هؤلاء الشبان الصغار: قد هزت بعمق أركان النظام الدكتاتوري الذي كان متسلطا على رقاب الشعب وكانت بمثابة المسمار الأول في نعشه. لقد أذكت من جديد الآمال المحيطة في إمكانية الخلاص منه. ورفعت الغطاء من فوق القمقم الذي احتبس بداخله المارد الجماهيري المغلل أنها كانت في اضعف الإيمان شرخا هائلا في جدار الخوف كان جديرا بأن يسمح لإشراقات النور الآتي بأن تتسرب من خلاله.. ولم يستطع أن ينام حتى الصباح قبل ساعة من طلوع الفجر نهض صدام حسين من فراشه فجأة وهو يحس بجمرة موقدة تتلظى في ساقه.. ألم حاد مرعب لم يستشعر مثله قط من قبل إدراك أن الرصاصة داخل ساقه هي التي تتسبب في كل ما يعانيه الآن ابن الطبيب؟ وما من طبيب يمكن أن يأتي إلى هنا أو أن تذهب إليه ليس هناك معنى للانتظار يجب أن تكون طبيب نفسك قرر على الفور بإرادته الفولاذية أن يجري العملية بنفسه. بهت الرفاق الذين تحلقوا حوله بعد أن تحسسوا أنينه المكتوم كيف يمكن له أن يستخرج الرصاصة من جسده بنفسه؟ قال لهم بصوت خفيض حبسه الألم : أنا انتظر الطبيب الذي يأتي ولا يأتي ونظر الى أحمد طه العزوز وقال له : هل لديك الشجاعة لتقوم بالعملية أم أقوم بها أنا؟ من الأفضل أن أمد ساقي هكذا وتجريها أنت. أما ان لم تستطع فسأفعلها أنا.. قال أحمد : وكيف يمكنني أن أجريها؟ بأي أداة؟ نظر إليه صدام بثبات وقال كأنه يتحدث عن شخص آخر : أحضر شفرة حلاقة جديدة ومقص. ابدأ بقص اللحم الذي يغطي الطلقة على شكل صليب (+)، وبعد القص عقم المقص وأدخله داخل الجرح وأخرج الطلقة هذا كل شيء.. عندما انتهى أحمد العزوز من إجراء العملية كانت يداه ترتجفان وعيناه لا تقويان على النظر إلى وجه صدام.. صب كمية من اليود فوق الجرح ووضع بداخله كمية من القطن ولفه بأطباق كثيفة من الشاش ثم تنفس الصعداء وتوقف وكان صدام حسين قد غلبه الإغماء من شدة الألم، ومرت لحظات قصيرة ولكنها ثقيلة وبطيئة مثل دهر وقد تركزت على وجهه عيون الرفاق ولكنه ما لبث أن فتح عينيه ونظر إليهم وقال : صار كل شيء طبيعيا الآن. بعد برهة تحامل على نفسه ونهض من مقعده وقال لهم : يا رفاق أنا لن أبقى في الوكر بعد الآن واقترح عليهم أن يتركوا الوكر جميعا ماعدا سمير النجم الذي لا يستطيع بصدره النازف أن يغادره على أن يبقى شخص واحد يقوم بدور المراقبة. (يتبع)