نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. ولمّا قطعنا النّقيل وصعدنا إلى الجبل وأشرفنا على ضفاف وادي الشعوب وشاهدنا مزارع القات والذرة والموز، أدركنا وقتئذ مبلغ كدّ اليمنيّين وعنايتهم بالزراعة ، وأنّهم شعب قويّ نشيط لا يحتاج إلاّ إلى قليل من عناية الحكومة حتى ينهض ببلاده بنفسه وينافس بكدّة أقدم وأرقى الأمم الزراعيّة ، ثمّ تمادينا في سيرنا إلى أن بلغنا قرية المنزل» ( ص 68-69). وصل الثعالبي إلى ذمار ، فبدأ بوصف جامعها . « وهو بناء أثري قديم العهد، بني على عهد سيّدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه ، بناه دحية الكلبي الذي أرسله النبيّ صلى الله عليه وسلّم ضمن الدعاة السبعة لتعليم أهل اليمن دينهم و تفقيههم. و بناؤه ووضعه أشبه ما يكون بجامع الفسطاط الذي أسّسه عمرو بن العاص رضي الله عنه، ثمّ زيد في أصله في رواقيه الشرقي والغربي ، حتى صار قائما على 150 أسطوانة وفوقها أقواس مفتولة عليها السقف. وفيه أربعة محارب: محرابان قديمان ومحرابان جديدان، أحدهما في الرواق الغربي والآخر في الرواق الشرقي، ومنبره من الخشب، وصناعته بسيطة للغاية لا أثر فيها للفنّ، وكذلك المسجد. أمّا صحنه فصغير جدّا بالنسبة إلى ضخامة بيت الصلاة واتّساعه، وهو في حاجة أكيدة للإصلاح. وله منارة حسنة فيها أربع حجارات بيضاء، ثلاثة منها عليها كتابة حميريّة والرابعة مكتوبة بقلم غير معروف لديّ. وقد أسفت كلّ الأسف لعدم وجود مصوّرة فوتوغرافيّة معي في هذه الرحلة، كنت آخذ بها رسم تلك الحجارة لنعرضها على رجال العلم يفكّكون رموزها» ( ص 76). ثمّ وصف المنازل: « أمّا منازل المدينة فقد أحصيت. وعدّتها 2000 منزل ، وأغلبها مؤلّف من أدوار عديدة بعضها بني بالحجارة وأكثرها بالطوب، وفيها قصور جميلة الهندام حسنة الوضع ، غير أنّ سلاليمها رديئة ولكن غرفها حسنة وأكثرها مبيّض بالكلس، ولها شبابيك عديدة. وقد بلغ عدد السكّان في الإحصائيات الأخيرة 14.000 نسمة بينهم نحو 500 من اليهود، ولهم محلّة خاصّة بهم تعرّف بقرية اليهود موجودة شرقيّ المدينة . والسجن العمومي موجود داخل سراي الحكومة. وقد رأيت كافّة المساجين حتّى أصحاب الجرائم المثقلة يخرجون في أوقات الصلوات المكتوبة من السجن وهم يحجلون في قيودهم ، فيذهبون إلى الميضاة و يتوضّأون ويدخلون الجامع يصلّون الفريضة ثمّ يعودون إلى السجن، ويخرجون للرياضة والراحة في وقت الضحى ، بحيث إنّ السجين يمكنه أن يختلط بالناس ويرى أهله وأقاربه ويرى العالم ولاجناح عليه في ذلك. وهو دليل على أنّه ليس من طبيعة الحكم الإسلامي الحرمان والتعذيب كما نرى ذلك بصورة واضحة في أحكام وشرائع الأوروبيّين « ( 76 -77) . ثمّ غادرها إلى صنعاء . وهي « مدينة أزليّة من بقايا حمير يراها القادم عليها من ناحية حزين على بعد 12 ميلا. وهي ممتدّة من الشرق إلى الغرب من جبل نعيم في الشرق إلى الجبل الأسود . وأوّل ما يشاهد منها مناراتها الجميلة الصاعدة في الفضاء، ثمّ المباني العسكريّة مثل قشلة الطبجيّة وقشلة البيادة ثمّ قبابها وقصورها العالية المنتشرة على طول المدينة. وهي من أجمل مدن الشرق من حيث ضخامة البناء وتعدّد القصور . ولكن ماذا تفيد الأبنية ؟ وليس في المدينة مصلحة تنظّم ولا إدارة بلديّة تتولّى ترميم الطرقات وتحسينها حسب الأصول العصريّة. وغالبها اختلّ بسبب ما تجرفه منها السيول ، و تخرّبت بسببها منازل كثيرة . يتبع