تقع منطقة سيدي بوعلي على بعد 20 كلم على مدينة سوسة تضم قرابة 21 ألف ساكن. وتشير الدراسات التاريخية إلى أنها كانت مقرا لأثرياء الرومان، إلا أنها اليوم أصبحت مقرا لنسبة كبيرة من الفقراء والعاطلين عن العمل في ظل ما تعرفه من تهميش رغم ما تزخر به من طاقات بشرية حيوية نشيطة. (الشروق) مكتب الساحل «الشروق» زارت هذه المنطقة لحل لغز هذه المفارقة ورصد انطباعات مواطنيها ومسؤوليها حول الوضعية السيئة التي تعرفها. وما إن توجهنا إلى بعض مواطنيها حتى عكسوا تعطشا كبيرا للتعبير عن ألمهم ومعاناتهم اليومية. ربيع العروسي شاب متحصل على شهادة اختصاص طبخ من أحد المعاهد السياحية لم يجد منفذا لتحقيق حلمه المتواضع والمتمثل في بعث مطعم شعبي صغير يوظف فيه قدراته التي اكتسبها في هذا المجال، ولما ضاقت به السبل وملّ من بيروقراطية مراحل بعث مشروع التجأ إلى الرصيف لبيع البيض... هكذا عبر لنا هذا الشاب متحسرا على أغلى فترة من حياته وهي فترة الشباب التي عوض أن يؤسس فيها شيئا لمستقبل غامض فإنه يعيش «كل يوم ويومو» حسب قوله. وأضاف العروسي «لقد ذهبت إلى ليبيا وعمان. واشتغلت حتى في ظروف الحرب. ورجعت إلى تونس. فلم أجد أي أمل في الشغل. فلا يوجد شيء في سيدي بوعلي. فنحن على الأقل نعيش وسط المعتمدية فلو تنتقل إلى أرياف هذه المنطقة ستصاب بصدمة. فهناك أناس ميتون بالحياة محرومون من أبسط ضروريات الحياة ويعيشون على الأعشاب أو بعض ما تجود به الأرض من خضر وتربية بعض الحيوانات. وكأن الزمن توقف عندهم إلى عصور خلت. فأهالي سيدي بوعلي وأخص بالذكر منهم فئة الشباب لنا طاقات رهيبة في مختلف المجالات. ولكن للأسف مهدورة... وجلهم انساقوا إلى المخدرات ومختلف أنواع الإدمان والانحراف لأنه ليس لهم بديل أو بصيص أمل». وتابع ربيع «المقاهي مكتظة ودور الشباب فارغة. هكذا أرادها مسؤولوها لا يقدمون شيئا لهذا الشباب في ظل غياب أي نشاط ثقافي ترفيهي. فالشاب لا يجد عملا. ولا يجد ترفيها أو شيئا آخر ينشغل فيه فماذا تراه يفعل وسط هذا الفراغ؟ أنا درست والتحقت بالتكوين. وفي النهاية وجدت نفسي في الشارع». وحول زيارات المسؤولين المحليين والجهويين أضاف «لا نرى أحدا منهم. ففي فترة الانتخابات الكل جاؤوا حتى من العاصمة ولم نسمع منهم غير الكلام دون أي فعل وملؤوا رؤوسنا بالوعود الكاذبة. وعندما تحصلوا على المناصب دفنونا. وكأن سيدي بوعلي غير موجودة أصلا في الخارطة ولا يربطنا بسوسة غير الموقع. فنحن محسوبون على الساحل. ولكن لا نتمتع بشيء. فالأفضل يلحقوننا بولاية القيروان أو بأي ولاية أخرى مهمشة حتى لا يستكثروا علينا انتماءنا إلى ولاية سوسة وأننا من المعتمديات المحظوظة بسبب ذلك الانتماء، مللنا الحياة ومللنا التجاهل والتغييب فحتى مصنع الحليب الذي كان يمثل نقطة ضوء تم غلقه». وأضاف العروسي «كانت لنا محمية تضم طيورا نادرة. ورغم ان السلط منعت الصيد فيها إلا أن العديد يصطادون. وأصبحت اليوم منطقة سوداء وتراكمت فيها الأوساخ نتيجة إهمالها». الشاب فارس حميدة لم يختلف رأيه عن سابقه. حيث قال «أنا شاب تحصلت على شهادة في إلكترو ميكانيك. وأتابع دورة تكوينية ولكن بنفسية سيئة قد تلزمني على الانقطاع فظروفي الاجتماعية صعبة مما جعلني في أوقات فراغي أبيع بعض الغلال على قارعة الطريق كما تراني اليوم، علاوة على أن الأفق غامض. وألاحظ أنّ النسبة الكبيرة للعاطلين عن العمل في منطقتي، إلى جانب غياب أي متنفس ثقافي و ترفيهي فحتى إذا توجهت إلى دار الشباب يشعرونك أنك غير مرغوب فيك. ويحاولون تنفيرك منها فالعديد من الشباب حتى التلاميذ يضطرون إلى استهلاك المخدرات نظرا الى الفراغ الذي يعيشونه وحالة الملل الدائمة وسط ظروف سيئة تعيشها مدينتنا الشبيهة بالريف القاحل، لولا بعض الطرقات والأضواء. فباعة المخدرات كثيرون في منطقتنا وبأسعار زهيدة». الكهول ومضاعفة المعاناة التقت «الشروق» بمجموعة من الكهول للحديث عن ماضي سيدي بوعلي ومقارنته بالحاضر فقال محسن بوقطفة «عشت ثلاث فترات وأفضل فترة عرفتها سيدي بوعلي فترة الرئيس السابق بن علي كان هناك اهتمام وما أنجز من بنية تحتية كان في هذه الفترة. ولكن منذ 2011 تقهقرت سيدي بوعلي عشرات السنوات إلى الوراء وأصبحت كأنها ملغاة من الخارطة التونسية، أوساخ في كل مكان، طرقات مكسرة، مصانع على قلتها مغلقة منها مصنع الحليب ومصنع خياطة، غياب التشجيعات والدعم لبعث المشاريع، نسبة مرتفعة في الانقطاع عن الدراسة بسبب الفقر وارتفاع في البطالة مما فسح المجال لجميع الانحرافات من مخدرات وغيرها، انتصاب فوضوي في كل مكان، غياب المراقبة والمحاسبة، غياب تام للمسؤولين... وضعية سيئة جدا». وقالت السيدة جميلة «أكثر ما نعانيه في سيدي بوعلي هو غلاء المعيشة والخصاصة والبطالة مما جعل أبناءنا في المقاهي طوال اليوم وعرضة لمختلف الانحرافات. فانتشرت المخدرات وغيرها من السلوكات غير الأخلاقية إضافة إلى الانقطاع عن الدراسة. فالعديد تسرب إلى قلوبهم اليأس والإحباط. وصار من الصعب على الأولياء السيطرة على أبنائهم فهناك انفلات، إلى جانب الأوساخ المنتشرة في كل مكان والطرقات المكسرة في كل الأنهج، وبالنسبة للخدمات الصحية والنقل مقبولة ولكن تبقى المعضلة الكبرى هي الأدوية التي نضطر الى شرائها من الصيدليات الخاصة». واشتكت لمياء بن عمار من غلاء الأسعار ومن الأوساخ. وأرجعت « سبب الانقطاع عن الدراسة الى الفقر الذي تعيشه العائلات غير القادرة على مصاريف الدراسة مما يضطر المنقطعين إلى العمل عوض الدراسة خاصة في صفوف الفتيات بينما الشبان في المقاهي» حسب قولها. وقال منير سليمان وهو من أصحاب الشهائد العليا «نعاني من التهميش في غياب منطقة صناعية. فقد تخرجت من كلية الحقوق منذ سنة 2001. والتجأت إلى العمل كعامل نظافة... وقتي في البلدية ولكن رجعت الى البطالة منذ سنة واليوم أبيع البيض على الطريق وكثيرون مثلي يشتكون البطالة». ماذا يُدبّر لمصنع الحليب؟ محسن بوقطفة هو كهل في الستين تقريبا من عمره. وتحصل على التقاعد المبكر بعد أن كان عاملا في مصنع الحليب بسيدي بوعلي والذي حدثنا عن هذا المصنع كأنه ابنه «حسرتي كبيرة على مصنع سيدي بوعلي للحليب كان منارة الجهة الأول في إفريقيا. وكنت أشتغل سائقا. وكان المصنع يشغّل 1500 عامل.لكن اليوم للأسف مديره يعمل على إفلاسه حتى تتخلى عنه الدولة بأبخس الأثمان ويكون تحت سيطرة الخواص». كما أشار محسن إلى مصنع آخر قد أغلق وكان يشغل قرابة 350 عاملا وعاملة. وبخصوص مصنع الحليب قال رئيس البلدية إبراهيم بوبكر «المصنع أصبح مهددا بالغلق ربما لأزمة افتعلها مدير المصنع لا ندري الخفايا. وقد تدخل والي الجهة عادل الشليوي لتقريب أوجه النظر. وعاد المصنع إلى العمل. ونرجو أن لا تتكرر مرة أخرى عملية غلقه». انتصاب فوضوي في كل مكان! ما إن تنزل في سيدي بوعلي حتى يعترضك باعة منتصبون في مختلف الأماكن يبيعون مختلف أنواع الخضر والغلال والبيض وغيرها. سألنا بعض المواطنين عن سبب ذلك فقالوا إن السوق موجودة. ولكن لا يرغب الباعة في البيع داخلها، وسألنا بعض المنتصبين فأكدوا لنا أن السوق لا تتوفر فيها الشروط الدنيا للبيع واستقبال الزبائن إضافة الى انهم لا يقدرون على دفع المعاليم البلدية. فيفضلون البيع في الشارع وحرية التصرف فيما يبيعونه دون رقابة أو أداءات. فنان على الطريق تزخر منطقة سيدي بوعلي بالطاقات الشبابية والمواهب. ولكن لا يجدون تأطيرا ولا تشجيعا حسب ما أكده كل من حاورناهم من الشباب وحتى من المكلفة بلجنة الثقافة ببلدية سيدي بوعلي. والتقت «الشروق» بالحرفي عبد اللطيف عبد الحميد وكان بصدد صنع تحف وزخرفتها على الطريق، وعلّق قائلا «ما ينقص الشباب هو التأطير. فأنا كونت نفسي بنفسي وتعبت واليوم عمري ستون سنة كنت تاجرا ولكن منذ عشر سنوات تعلمت حرفة الرسم والزخرفة. وأقوم بصنع بعض التحف وأبيعها ولنا في سيدي بوعلي العديد من المواهب لكن هناك نقص في الدعم والتشجيع وايضا نقص في الإرادة، فالشاب عندما لا يجد من يسنده يدب اليأس في نفسه فينحرف إلى أعمال أخرى». والي سوسة عادل الشليوي المجلس المحلي سيحل عدة مشاكل قال والي سوسة عادل الشليوي ل «الشروق» إنه بتعيين معتمد جديد لسيدي بوعلي سيتم تركيز مجلس محلي بحضور كل المندوبين الجهويين والإطارات المسؤولة عن مختلف القطاعات للنظر في مختلف الإشكاليات التي تعيشها منطقة سيدي بوعلي. وهذا لا ينفي اشتغالنا على الإشكاليات الكبرى منذ تولينا المسؤولية. وهناك مشاريع بصدد تفعيلها ونعمل على دراسة مختلف الإشكاليات».