نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. مع ملّون في رحلته من بالرمو إلى تونس (2) وها هو يكتب في المهديّة بتاريخ 16 ماي 1884 عن المدن الساحليّة وآثارها الفينيقيّة والرومانيّة الدّارسة لما تعاقب عليها من الويلات تبعا للغزوات . وهي دليل على ما ينطوي عليه كلّ شبر من التراب التونسي من المعالم الظاهرة واللّقى المغمورة التي يتشوّف إليها عالم الآثار . كلّ ذلك يدلّ على مبلغ الازدهار الفلاحي والتجاري الذي استحقّت به المقاطعة الإفريقيّة منافسة المدن الإيطاليّة ، بما فيها رومة ، في مظاهر الرفاه والتأنّق فضلا عن تزويدها بحاجياتها من الحبوب والزيوت وغير ذلك ( ص 127 – 130) . ومنطقة المهديّة – والكلام دائما لملّون – ثريّة بالمواقع الأثريّة، سواء المجهورة أو المعمورة، التي حافظت على أسمائها القديمة . وفي طرف المدينة من جهة البحر تقع المقبرة بأشكال قبورها الفينيقيّة إذ شبّهها رينان (Renan) بقبور عرادة (Aradus) السوريّة . وقد وصفها بما نصف به نحن مقابر كركوان اعتبارا للأصل المشترك، فقال إنّها منقورة في الصخر، ينزل إليها عبر سلّم أو مدرج يفضي إلى حجرة الدفن حيث تمدّد الهياكل العظميّة محفوفة بأدوات تصلح للحياة الأخرى ومشكاة لقنديل منير ولو بصفة رمزيّة . ولكن ، للأسف ، نهب أكثرها ( ص 130 – 132) . أمّا قصر الجم الشامخ على قرية حقيرة فيظهر الفرق بين الشعب الذي شيّده والأعراب الذين جاوروه بشكل يثير العجب . توقّف ملّون وقتا لرفع قياساته ووصف حالته ، الظاهر منها والمردوم ، متذكّرا كوليزي رومة ومقدّرا الأيادي التي أقامته على اختلاف اختصاصاتها الحرفيّة زيادة على الإحاطة الطبّية . وصعد إلى مستوى الطابق الأوّل متطلّعا إلى الكتابات اللوبيّة الراجعة إلى عهد الكاهنة ملكة البربر إبّان اتّخاذها إيّاه حصنا منيعا في مواجهة الفاتحين العرب كما هو معروف في التاريخ . غير أنّ تلك الكتابات - التي كان شارل تيسّو (Ch.Tissot) أوّل من اكتشفها - مازالت موضوع اختلاف حول أصلها بين الأثريّين (ص 133 – 135). استحضر ملّون تاريخ الجمّ في العهد الروماني زمن قورديان (Gordien) الأوّل والثاني ببعض الأسف على تحوّل موقع المدينة، حول القصر أو الملعب، إلى أرض فلاحيّة يكشف المحراث فيها بين الحين والحين عن تمثال رائع أو فسيفساء رائقة. ثمّ عاد إلى المهديّة ليستحضر تاريخها هي أيضا مقارنا ، كالعادة، ازدهارها في العهد الفاطمي بتقهقرها بعده حتّى غدت مطواعة مستسلمة عند الاحتلال الفرنسي، على عكس صفاقس ومناطق العربان الداخليّة . وحاول تفسير موقفها بطبيعة المهدويّين إذ اعتبرهم أكثر تحضّرا ونزوعا إلى الاستقرار، بدل المجازفة والمغامرة، خوفا على تجارتهم ونشاطهم البحري بما في ذلك صادراتهم من سمك السردين إلى اليونان وغيرها. وهذا زيادة على كون سكّانها خليطا من المسلمين واليهود والمالطيين والفرنسيين والإيطاليين الذين ربطت بينهم الأعمال والمصالح (ص 135 – 141). من هناك استأجر ملّون عربة مجرورة ( كرّيطة أوكاليس) بقيادة مالطيّ للتوجّه إلى المنستير التي وصل إليها بعد ستّ ساعات عبر البقالطة الأثريّة ، وإذا هو يكتب منها بتاريخ 20 ماي 1884 كتابة معجب بسورها ومآذنها وسمائها وبحرها حتّى ذكّرته بطليطلة وبفنون العمارة والزخرفة التي جلبها أواخر مسلمي الأندلس إلى بلادنا . وفيها حلّ ضيفا لدى قنصل فرنسا ، ثمّ استأنف وصفها بإعجاب شاعريّ وأحصى سكّانها بسبعة آلاف وخمسمائة نسمة ، منهم 600 يهوديّ و 300 إيطاليّ و150 مالطيّ و 109 فرنسيّ ، ولاحظ أنّ التجارة بأيدي الأوروبيّين واليهود ، وأنّ أهمّ صادراتها الزيت وإن هو يباع في إيطاليا ومرسيليا بثمن بخس لرداءته ، على حدّ قوله ( ص 142 – 145) . وإذ لم يحضر ملّون حفل زفاف اكتفى باستعراض فعاليّاته حسب أوصاف مضيّفه، فدلّ كلّ شيء من المهر إلى اللباس والأكل والطرب على الثراء والبذخ ( ص 146 – 148) . ثمّ قصد الخليفة للرفقة في زيارة المدرسة الفرنسيّة التي اعتبرها أفضل إنجاز لتحقيق الاندماج بين مختلف الأعراق ، حسب رأيه الداعم لفكرة الاستعمار الدائم بعد فشل المقاومة أمام الجيش الفرنسي (ص 149). وذاك شغله الشاغل من صفحة إلى أخرى ، بل إنّه زاد هذه المرّة أنّ الإيطاليين – وهم الأغلبيّة إذ منهم 20.000 في العاصمة وحدها – ما اعترضوا على الحملة الفرنسيّة إلاّ لأطماعهم في أن يظفروا بالبلاد ( ص 150 – 152) . لذلك كان طبيعيّا جدّا أن ينوّه ملّون بالتحسّن الملحوظ في المدرسة الفرنسيّة بالمنستير ، مع بعض السخرية من زيّ التلاميذ اليهود، وبعض الانتقاد للذين منعوا أبناءهم من دخولها ثمّ جاؤوا بهم إليها متأسّفين رغبة في تدارك ما فات . وهذا يبشّر بإمكانية جمع الشتات ولفّ الجميع براية فرنسا ، وليس ذلك عليها بعزيز على حدّ تعبيره ( ص 152 – 153) . ها هو في سوسة يوم 22 ماي 1884 إذ وصل إليها في كرّوسة خليفة المنستير بعد تراجع المالطيّ المتّفق معه بدعوى ثقل ثمانين كيلوغراما من الأمتعة على دوابه ( ص 155) وبعد سطو سائق الكرّوسة على دابة تحمل تبنا لعبد ضعيف بتعلّة ضرورة الاستعانة بها لتخفيف الحمل على الدواب ( ص 156). لاحت له سوسة كبرنس أبيض منشور على ربوة بين السماء والبحر، فما أجملها مغمورة بأشعّة الشمس، لامعة كجوهرة مصقولة ، وأسوارها تعكس الأنوار على البحر! ولكن الواقع غير هذا الانطباع المتسرّع أو الصورة الخارجيّة! هاهو يشير إلى الأنهج الملوّثة والمغبرّة ، ولكنّه متأكّد من أنّ الوضع سيتحسّن وأنّ الصورة ستصبح أجمل، بفضل الاستعمار طبعا، بعد توسيع الأنهج على حساب الأسوار والأبواب وبناء نزل عصريّة على حساب الطابع الأصيل ( ص 156 – 158) ! بلغ عدد سكّانها في زمان الرحّالة 15.000 نسمة، فهي الثانية بعد العاصمة بفضل نشاطهم وخصب أرضهم ووفرة زيتهم منذ أقدم العصور بشهادات المؤرّخين. وكذلك كانت المقاطعة الإفريقيّة بما يلخّص في عبارة «مطمور رومة» من الحبوب وغيرها ممّا تتفوّق به على مصر بكثير، مع ضرورة الإشارة إلى سنوات الجفاف التي اقتضت بناء المواجل والخزّانات والفسقيّات وجلب المياه إليها عبر القنوات والحنايا، سواء في العصور القديمة أو في العهد العربي. وهنا نوّه صاحب الرحلة بالفلاحة القرطاجيّة كما دوّنها ماغون (Magon) في موسوعته الشهيرة مذ أمر مجلس الشيوخ في رومة بترجمتها إلى اللاّتينيّة ، وفي نفس الوقت استاء من التدهور الذي تسبّب فيه الأعراب – حسب رأيه دائما – بحرق الغابات وفسح المجال للتصحّر واستمرار الحروب وإهمال الأراضي وتناسي الخبرة القديمة (ص 158 – 161) . وفي نفس السياق نوّه بالانطلاقة الجديدة للفلاحة وخاصّة لزراعة الحبوب حيث بدأ المعمّرون الفرنسيّون يستصلحون الأراضي حتّى بلغت السنابل مترين بباجة وسوق الأربعاء (جندوبة فيما بعد) وأوتيك ، وكذلك في جهة القيروان والجم والساحل ( ص 162). بعد الفلاحة عاد ملّون إلى الثروة الأثريّة بسوسة وأحوازها ملاحظا التفريط في اللّقى بالبيع لمن هبّ ودبّ والقانون موجود ولا يجد من يطبّقه! ولكنّ الأمر سيتغيّر من هنا فصاعدا – حسب الإضافة الهامشيّة – بعد تسمية أحد قدماء مدرسة رومة متفقّدا ومحافظا للآثار التونسيّة ( ص 162 – 164) . (يتبع)