في مثل هذه الايام من كل سنة تكتظ وسائل الاعلام، خصوصا منها المكتوبة بالعرّافين وأهل التنجيم والمتنبئين بالمستقبل ومن لف لفهم.. ليتكلموا في كل شيء ويصدروا التوقعات والتنبؤات يمينا وشمالا وفي كل الاتجاهات. ولأن المستقبل غامض بطبيعته ومجهول وتكتنفه اأسرار، فهو موضوع مثير يلقى الاهتمام البالغ من قبل الناس، من مختلف الشرائح الاجتماعية والمستويات الذهنية وهم يقبلون عليه بنهم من يرغب في هتك أسرار المجهول وستباق الزمن، وما الذي يغري الصحافة أكثر من الاثارة وشد اهتمام جمهور القراء؟ والثابت ان ظاهرة العرافة والتنجيم والسحر والشعوذة قديمة قدم تاريخ الانسان، ولم يخل منها مجتمع عتيق أم حديث، متخلف أم متقدم، لكن ما يميز مجتمعا أو ثقافة عن مجتمع آخر وثقافة أخرى هو كيفية التعامل مع تلك الظاهرة والموقع الذي يسمح لها بأن تلعبه في أذهان الناس وسلوكهم. ولقد تدرج التعامل مع هذه الظاهرة من أساليب الليونة والتسامح الى أساليب الشدة والعنف، بل بلغ الى المعالجة الاستئصالية من خلال تتبع المنجمين والعرافين والسحرة وقتلهم وحرقهم والتمثيل بجثثهم، هذا على الأقل ما حدث في فرنسا القرون الوسطى من خلال ما يخبرنا به المؤرخ والباحث الفرنسي ميشلي في كتابه الساحرات أو ما تقصاه ميشال فوكو في كتابه تاريخ الجنون. وما كان ذلك ليحدث لولا الوعي بخطورة مثل هذه الظاهرة والنفوذ الكبير الذي يقوم به أصحابها على الناس والمجتمعات. إن التنبؤ بالمستقبل يجعل الناس يكيّفون سلوكهم وفق التنبؤات التي يتلقونها، وهذا في حد ذاته يبيّن خطورة ممارسة التنبؤ... لكن المشكلة ليست هنا، وانما هي حول محاسبة المتنبئين والعرافين عن تنبؤاتهم، محاسبة نزيهة وموضوعية، تقارن بين ما وقع التنبؤ به وما تحقق فعلا في الواقع. لأنه لا يعقل أن يسمح للمتنبئين والعرافين أن يشيعوا بين الناس كلاما له نتائج مصيرية دون التثبت من ذلك الكلام والوقوف على صحيحه من خطئه!؟ بل الاخطر ان يتجاوز العرافون والمتنبئون أدوارهم التقليدية ولغاتهم الاطلاقية المبهمة الى التوضيح والتبيين والحديث حول وقائع وأحداث محددة وذكر شخصيات وأسماء بذاتها، والدخول في مراهنات حولها... ونذكر هنا بغرابة ما حصل من تخبطات وسفاهات وأكاذيب العرافين والمتنبئين في الشأنين الأفغاني والعراقي وكيف وقع الترويج لنبوءة موت بن لادن وعدم وقوع الحرب على العراق وبقاء صدام في السلطة واغتيال جورج بوش الابن... ان الكثير من العرافين ومن هم على شاكلتهم يحاولون توسيع نطاق نفوذهم بمحاولة تعيين لغتهم الهلامية اي بتفسير لغتهم العمومية الهلامية الغامضة التي لا يمكن اخضاعها لتأويل واحد، تفسيرها في أحداث ووقائع معلومة وأشخاص بعينهم، وفي تنافسهم المحموم حول ذلك يدّعون مثلا التنبؤ بمقتل المطربة ذكرى محمد. اذا كانوا تنبؤوا بذلك حقا، ألا يعتبرون طرفا في هذه الجريمة ويحق عرضهم على القضاء؟! نفترض ان أحدا ما تضرر من نبوءة عراف فهل يحق له طلب المحاسبة وهل يكفل له القانون حقوقا بصفته مواطنا تعرّض لكلام كاذب؟! مثل تلك الأسئلة وغيرها مشروع في اي مجتمع مدني، يتحمل فيه كل فرد مسؤوليته التامة عما يصدر منه. لكن ما يهمنا اكثر من تلك الأسئلة هو مزيد تعميق الطرح الفكري حول ظاهرة العرافة والتنجيم التي تشهد تطورا مضطردا ونحسب انه من المفيد الوقوف عند رأي أحد علماء الفيزياء الكبار ستيفن هوكنج الذي ألف كتابا هاما حول الكون والنجوم والزمن أسماه «الكون في قشرة جوز» ترجمة د. مصطفى ابراهيم فهمي ونشرته سلسلة عالم المعرفة الكويتية في مارس 2003... وهذا العالم يعد من أهم المفكرين في الفيزياء النظرية، وحسب مقدمة الكتاب فهو : «يقف في صف واحد مع اينشتين ونيوتن وجاليلو». يقول ستيفن هوكنج في فصل «التنبؤ بالمستقبل» «ص97» يدعي التنجيم ان الاحداث على الارض لها ارتباط بحركات الكواكب عبر السماء وهذا فرض يمكن اختباره علميا، او هو سيكون كذلك لو ان المنجمين اشرأبوا بأعناقهم مادين اياها للخارج لصنع تنبؤات محددة يمكن اختبارها. الا انهم بكل حكمة يجعلون تنبؤاتهم بالغة الغموض بحيث يمكنهم تطبيقها على اي نتيجة تظهر. فلهم مقولات مثل : «العلاقات الشخصية قد تزداد قوة» او «ستنال فرصة مجزية ماليا» وهي مقولات لا يمكن أبدا اثبات خطئها... على ان السبب الحقيقي في ان معظم العلماء لا يؤمنون بالتنجيم ليس هو وجود البراهين العلمية او نقصها، وانما لأن التنجيم لا يتسق مع نظريات أخرى قد اختبرت بالتجارب. عندما اكتشف كوبرنيكوس وجاليلو ان الكواكب تدور حول الشمس وليس الارض، واكتشف نيوتن القوانين التي تحكم حركتها أصبح التنجيم بعيدا تماما عن أن يصدقه اي أحد». اذن، فليحذر المنجمون والعرافون من فقدان الحكمة، لأنه كلما ازداد نفوذهم غير المحسوب يحدث ان ينقلب السحر على الساحر.