أصدر مؤخرا الشاعر محمود درويش مجموعة شعرية جديدة في لندن عن دار رياض الريس بعنوان: لا تعتذر عمّا فعلت. هذه المجموعة صدرت في 165 صفحة وقسمها الى ستة أبواب هي: في شهوة الايقاع وطريق الساحل ولا كما يفعل السائح الاجنبي وبيت من الشعر / بيت الجنوبي وكحادثة غامضة وليس للكردي الا اريح وتضمن الباب الأول 47 قصيدة من بيها قصيدة شكرا لتونس وفي مصر وأتذكر السيّاب. وكانت قصائد درويش طافحة بالغنائية والمرارة في واقع عربي غارق في السواد وتصدر هذه امجموعة بعد لماذا تركت الحصان وحيدا وسرير الغريبة وجدارية وحالة حصار اذ تندرج هذه الأعمال في مرحلة شعرية واحدة، وكان درويش بدأ حياته الشعرية «بأوراق الزيتون» في الستينات لتتالى مجموعاته الشعرية عاشق من فلسطين وآخر الليل وحبيبتي تنهض من نومها... ليبدأ تجربة أخرى في «مديح الظل العالي» و»حصار لمدائح البحر» التي عبرت عن تجربة خروج الفلسطينيين من بيروت الى تونس ومن هذه المجموعة بدأت تجربة شعرية أخرى لمحمود درويش تندرج ضمنها هي أغنية هي أغنية وورد أقل ومأساة النرجس وأرى ما أريد وأحد عشر كوكبا. و»الشروق» تنشر قصائد من هذه المجموعة الصادرة حديثا قبل توزيعها في المكتبات التونسية. في الانتظار في الانتظار، يصيبني هوس برصد الاحتمالات الكثيرة: ربما نسيت حقيبتها الصغيرة في القطار، فضاع عنواني وضاع الهاتف المحمول، فانقطعت شهيتها وقالت: لا نصيب له من المطر الخفيف وربما انشغلت بأمر طارئ أو رحلة نحو الجنوب لكي تزور الشمس، واتصلت ولكن لم تجدني في الصباح، فقد خرجت لأشتري غاردينيا لمسائنا وزجاجتين من النبيذ وربما اختلفت مع الزوج القديم على شؤون الذكريات، فأقسمت ألاّ ترى رجلا يهدّدها بصنع الذكريات وربما اصطدمت بتاكسي في الطريق اليّ، فانطفأت كواكب في مجرّتها. ومازالت تعالج بالمهدئ والنعاس وربما نظرت الى المرآة قبل خروجها من نفسها، وتحسست أجاصتين كبيرتين تموّجان حريرها، فتهّندت وتردّدت: هل يستحق أنوثتي أحد سواي وربما عبّرت، مصادفة، بحبّ سابق لم تشف منه، فرافقته الى العشاء وربما ماتت، فإن الموت يعشق فجأة، مثلي، وإنّ الموت، مثلي، لا يحبّ الانتظار لو كنت غيري لو كنت غيري في الطريق، لما التفتّ الى الوراء، لقلت ما قال المسافر للمسافرة الغربية: يا غريبة! أيقظي الجيتار أكثر! أرجئي غدنا ليمتدّ الطريق بنا، ويتّسع الفضاء لنا، فننجو من حكايتنا معا: كم أنت أنت... وكم أنا غيري أمامك ها هنا! لو كنت غيري لانتميت الى الطريق، فلن أعود ولن تعودي. أيقظي الجيتار كي نتحسس المجهول والجهة التي تغوي المسافر باختبار الجاذبية. ما أنا إلاّ خطاي، وأنت بوصلتي وهاويتي معا. لو كنت غيري في الطريق، لكنت أخفيت العواطف في الحقيبة، كي تكون قصيدتي مائية، شفّافة، بيضاء، تجريدية، وخفيفة... أقوى من الذكرى، وأضعف من حبيبات الندى، ولقلت: إنّ هويتي هذا المدى! لو كنت غيري في الطريق، لقلت للجيتار: درّبني على وتر إضافي! فإن البيت أبعد، والطريق اليه أجمل هكذا ستقول أغنيتي الجديدة كلما طال الطريق تجدد المعنى، وصرت اثنين في هذا الطريق: أنا... وغيري! شكرا لتونس شكرا لتونس. أرجعتني سالما من حبّها، فبكيت بين نسائها في المسرح البلدي حين تملّص المعنى من الكلمات. كنت أودّع الصيف الأخير كما يودّع شاعر أغنية غزلية: ماذا سأكتب بعدها لحبيبة أخرى... إذا أحببت؟ في لغتي دوار البحر. في لغتي رحيل غامض من صور. لا قرطاج تكبحه، ولا ريح البرابرة الجنوبيين. جئت على وتيرة نورس، ونصبت خيمتي الجديدة فوق منحدر سماويّ. سأكتب ههنا فصلا جديدا في مديح البحر: أسطورية لغتي، وقلبي موجة زرقاء تخدش صخرة: «لا تعطني، يا بحر، ما لا أستحق من النشيد. ولا تكن يا، بحر، أكثر أو أقلّ من النشيد!»... تطير بي لغتي الى مجهولنا الأبدي، خلف الحاضر المكسور من جهتين: إن تنظر وراءك توقظ سدوم المكان على خطيئته... وان تنظر أمامك توقظ التاريخ، فاحذر لدغة الجهتين... واتبعني. أقول لها: سأمكث عند تونس بين منزلتين: لا بيتي هنا بيتي، ولا منفاي كالمنفى، وها أنذا أودّعها، فيجرحني هواء البحر... مسك الليل يجرحني، وعقد الياسمين على كلام الناس يجرحني، ويجرحني التأمّل في الطريق اللولبي الى ضواحي الأندلس... لي مقعد في المسرح المهجور لي مقعد في المسرح المهجور في بيروت. قد أنسى، وقد أتذكر الفصل الأخير بلا حنين... لا لشيء بل لأن المسرحية لم تكن مكتوبة بمهارة... فوضى كيوميات حرب اليائسين، وسيرة ذاتية لغرائز المتفرجين. ممثلون يمزّقون نصوصهم ويفتّشون عن المؤلف بيننا، نحن الشهود الجالسين على مقاعدنا. أقول لجاري الفنان: لا تشهر سلاحك، وانتظر، إلاّ اذا كنت المؤلف! لا ويسألني: وهل أنت المؤلف؟ لا ونجلس خائفين. أقول: كن بطلا حياديا لتنجو من مصير واضح فيقول: لا بطل يموت مبجلا في المشهد الثاني. سأنتظر البقية. ربما أجريت تعديلا على أحد الفصول. وربما أصلحت ما صنع الحديد باخوتي فأقول: أنت اذا؟ يرد: أنا وأنت مؤلفان مقنعان وشاهدان مقنعان. أقول: ما شأني؟ أنا متفرج فيقول: لا متفرج في باب هاوية... ولا أحد حياديّ هنا. وعليك ان تختار دورك في النهاية فأقول: تنقصني البداية، ما البداية؟ في الشام في الشام، أعرف من أنا وسط الزحام. يدلني قمر تلألأ في يد امرأة... عليّ. يدلني حجر توضأ في دموع الياسمينة ثم نام. يدلني بردى الفقير كغيمة مكسورة. ويدلني شعر فروسي عليّ: هناك عند نهاية النفق الطويل محاصر مثلي سيوقد شمعة، من جرحه، لتراه ينفض عن عباءته الظلام. تدلني ريحانة أرخت جدائلها على الموتى ودفّأت الرخام. «هنا يكون الموت حبّا نائما» ويدلني الشعراء، عذريين كانوا أم إباحيين، صوفيين كانوا أم زنادقة، عليّ: إذا اختلفت عرفت نفسك، فاختلف تجد الكلام على زهور اللوز شفافا، ويقرئك السماويّ السلام. أنا أنا في الشام، لا شبهي ولا شبحي. أنا وغدي يدا بيد نرفرف في جناحي طائر. في الشام أمشي نائما، وأنام في حضن الغزالة ماشيا. لا فرق بين نهارها والليل إلاّ بعض أشغال الحمام. هناك أرض الحلم عالية، ولكن السماء تسير عارية وتسكن بين أهل الشام... في مصر في مصر، لا تتشابه الساعات... كلّ دقيقة ذكرى تجددها طيور النيل. كنت هناك. كان الكائن البشري يبتكر الاله / الشمس. لا أحد يسمّي نفسه أحدا. «أنا ابن النيل هذا الاسم يكفيني». ومنذ اللحظة الأولى تسمي نفسك «ابن النيل» كي تتجنب العدم الثقيل. هناك أحياء وموتى يقطفون معا غيوم القطن من أرض الصعيد، ويزرعون القمح في الدلتا. وبين الحيّ والميت الذي فيه تناوب حارسين على الدفاع عن النخيل. وكلّ شيء عاطفي فيك، إذ تمشي على أطراف روحك في دهاليز الزمان، كأن أمّك مصر قد ولدتك زهرة لوتس، قبل الولادة، هل عرفت الآن نفسك؟ مصر تجلس خلسة مع نفسها: «لا شيء يشبهني». وترفو معطف الأبدية المثقوب من إحدى جهات الريح. كنت هناك. كان الكائن البشري يكتب حكمة الموت / الحياة. وكل شيء عاطفي، مقمر... إلاّ القصيدة في التفاتتها الى غدها تفكر بالخلود، ولا تقول سوى هشاشتها أمام النيل... أتذكّر السيّاب أتذكّر السياب، يصرخ في الخليج سدى: «عراق، عراق، ليس سوى العراق...» ولا يردّ سوى الصدى. أتذكر السياب، في هذا الفضاء السومريّ تغلّبت أنثى على عقم السديم وأورثتنا الارض والمنفى معا أتذكرالسياب... إن الشعر يولد في العراق فكن عراقيا لتصبح شاعرا يا صاحبي! أتذكر السياب، لم يجد الحياة كما تخيّل بين دجلة والفرات، فلم يفكّر مثل جلجامش بأعشاب الخلود، ولم يفكّر بالقيامة بعدها... أنذكر السياب، يأخذ عن حمورابي الشرائع كي يغطّي سوأة، ويسير نحو ضريحه متصوفا. أتذكر السياب، حين أصاب بالحمّى وأهذي: إخوتي كانوا يعدّون العشاء لجيش هولاكو، ولا خدم سواهم... إخوتي! أتذكر السياب، لم نحلم بما لا يستحق النحل من قوت. ولم نحلم بأكثر من يدين صغيرتين تصافحان غيابنا. أتذكر السياب. حدادون موتى ينهضون من القبور ويصنعون قيودنا. أتذكر السياب. إنّ الشعر تجربة ومنفى توأمان. ونحن لم نحلم بأكثر من حياة كالحياة، وأن نموت على طريقتنا «عراق «عراق