إلتحق عبد الرحمان بن خلدون بفاس وأنضمّ لمجلس السّلطان أبوعنان لكنّ أيّام النعيم لم تطل وكانت محنته السياسية الأولى في تاريخ طويل من المحن والمؤامرات ويقول ابن خلدون عن هذه المحنة «كان إتّصالي بالسّلطان أبي عنان، أخر سنة ست وخمسين وقرّبني وأدناني، وأستعملني في كتابته، حتّى تكدّر جوّي عنده، بعد أن كان لا يعبّر عن صفائه، ثمّ إعتلّ السّلطان آخر سبع وخمسين، وكانت قد حصلت بيني وبين الأمير محمد صاحب بجاية من الموحّدين مداخلة، أحكمها ما كان لسلفي في دولتهم، وغفلت عن التّحفّظ في مثل ذلك، من غيرة السّلطان، فماهو إلاّ أن شغل بوجعه، حتّى أنمى إليه بعض الغواة، أن صاحب بجاية، معتمل في الفرار ليسترجع بلده، وبها يومئذ، وزيره الكبير،عبداللّه بن علي، فأنبعث السّلطان لذلك، وبادر بالقبض عليه .وكان فيما أنمي إليه، إني داخلته في ذلك، فقبض عليّ، وأمتحنني، وحبسني، وذلك في ثامن عشر صفر،سنة ثمان وخمسين .ثمّ أطلق الأمير محمدا،ومازلت أنا في اعتقاله، الى أن هلك .» ويقول ابن خلدون إنّه كتب قصيدة يستعطف فيها السّلطان ومطلعها: على أي حال لليالي أعاتب وأي صروف للزمان أغالب كفى حزنا أنّي على القرب نازح وأني على دعوى شهودي غائب وأني على حكم الحوادث نازل تسالمني طورا وطورا تحارب ويضيف سلوتهم إلاّ إذّكار معاهد لها في الليالي الغابرات غرائب وإنّ نسيم الريح منهم يشوقني إليهم، وتصيبني البروق اللواعب وتضمّ هذه القصيدة مائتي بيت ويقول ابن خلدون أنّه نسي أغلب أبياتها وحين سمعها السّلطان الذي كان في تلمسان أنذاك تأثّر بها ووعد بالأفراج عنه حين يصل الى فاس لكنّه توفيّ بعد خمسة أيام من وصوله الى فاس وتولّى الأمر بعده الوزير الحسن ابن عمر فبادر الى إطلاق سراح مجموعة من المعتقلين كان ابن خلدون من بينهم . ويقول ابن خلدون إنّه طلب الاذن في العودة الى تونس لكن الوزير رفض طلبه وعامله بما يحفظ كرامته الى أن تمرّد عليه بنو مرين . وكان ابن خلدون قد قضى عاما في السّجن وأخذ عهدا على نفسه بأن لا يخوض في السياسة مجدّدا لكنّ بقاءه في المغرب سيدفعه قسرا الى العودة الى السياسة في الصراع بين المرينيين . يتبع