مهرجان النميمة الثقافية 1 حكى الجاحظ »في الحيوان« عن صنف من الحشرات يُدعى »الجُعلان« ومفردها جُعل (بضم الميم وفتح العين) وقال في طبعها: »الجُعَل يموت من ريح الوردة وينتعش في الروث«. ولا نرى وصفا أدقّ من هذا لنعت أولئك الذين يهبون بين حين وآخر، على الساحة الثقافية، وهم يموتون من ريح العمل والمعرفة والصبر وينتعشون في الكسل، والجهل، والنميمة. 2 يهب الجعل الصغير على الساحة الثقافية دون أسلحة أخرى غير الجلوس الى طاولة الأستاذ علوان: »نحن نقدرك يا أستاذ أنت أبونا، تعلمنا الكثير على يديك وتربينا على أحرفك منذ أن عرفنا عالم الكتابة، هل لي أن أستأذن في الجلوس اليك«؟ هكذا يدخل الى عالم الكتابة، يحمل حقيبة في يديه، وجرائد، حين يطمئن الأستاذ علوان الى هذا التلميذ الراغب في العلم الطالب للود، يتنقل الجعل الثقافي الى مرحلة أخرى. »ولكن يا أستاذ، ما الذي بينك وبين الأستاذ حمدان. ويأخذ الحوار منحى آخر... ما به، أنا أقدره. أنا أيضا، لكن اندهشت منه حين قام في جمع غفير من الجمهور وحاول التنقيص من قيمتك وادّعى أنك جاهل بالميدان الذي تكتب فيه وأن شهائدك العلمية مزوّرة، وأنهم طردوك من المهرجان الذي أقيم منذ أيام بدعوى أنك لم تعترف بشاعرية ابن جمعيتهم الذي يعتبره أهل الملتقى واحدا من رموز الحداثة. هذا شخص أعرفه جيدا، سكتّ عنه طويلا لأن أخاه إنسان طيب وطبيب جيد، فقد ساعد والدتي في مرضها الأخير، وقدم مساعدات لا أنساها، أما هو، فإن الدكتوراه التي حصل عليها من أحد البلدان المشهورة بكلمة دكتور، وإذا أردت ان تحصل على الدكتوراه، فما عليك الا ان تدفع مبلغا ماليا محددا، حتى تحرر لك دكتوراه أولا، ثم تدفع أجرة المشرف ورشوة المقرر، وتكاليف صمت لجنة المناقشة، أما عرض الطالب لموضوع أطروحته في وقت وجيز، فيتم كتابيا، ولا هدف له غير التقاط صور مع أعضاء اللجنة، وبهذه الطريقة نال صاحبنا الدكتوراه في ظروف علمية تعيسة وبائسة، وتم كل ذلك وفق شعار معروف »الدكتوراه من الجيب الى الجيب«. متناسيا ان الدكتوراه حين تخرج من الجيب لا تدخل الى الرأس. وبعد هذا تتقافز المعاني من أماكنها الأولى وتأخذ عبارة »كتابه الذي ألفه« مكان عبارة »الذي سرقه من هناك وهناك«، ونعت »رجل محترم« بدل »انسان تافه« و»أنا احترمه« بدل »أنا أحتقره«. 3 حين تندلع المعركة يقوم الجعل الصغير بتحرير وقائع المعركة بين الأستاذين ويذهب بهذا الخبر الى »جريدة مهرجان النميمة« واسمها مستوحى من اسم بنت الشاعر الجاهلي فوائد النابغة الذبياني »عقرب«. حين سئل رئيس التحرير عن هذا الاسم المؤذي، انخرط في إجابة مطولة عن سمّ العقرب، وقدرتها على الصمود بعد الانفجار النووي. وحين يلحون عليه في تغيير التسمية، يدافع عن اسم جريدته: إني متفائل خيرا بالعقرب فأنا من برج العقرب، وزوجتي كذلك وابنتي البكر من مواليد نفس البرج وثروتي كلها جاءت من جريدة العقرب. 4 قسّم رئيس التحرير أخباره في مهرجان النميمة الى »لسعات« و»لدغات« و»ملامسات«، وحين يريد أن ينبه الى موضوع قادم، يكتبه بعنوان »ذؤابة« فهو متحمس دوما الى الأخبار القادمة من المقاهي الثقافية، والمنظمات الثقافية، يرسل اليها جعلانه الجائعين الى الموائد، حيث ان »جعلا« صغيرا من جعلانه يتعشّى مع »محمود« المتناحر مع »سالم« ويزوّده بأخباره المختلفة فأثناء العشاء يتصل الجعل بسالم، فيردّ عليه مستخدما اسما آخر: أهلا سي الطيب، أنا مشغول الآن ويترك الهاتف مفتوح الخط وبهذه الطريقة يسمع سالم ما قاله فيه »محمود«. بعد ذلك يشرب قهوة مع »سالم« فيستفزه بسؤال عن زوجة »محمود« ويحكي »محمود« عن ماضيها أيام الجامعة وكيف كانت ترتدي أزياء خاصة يوم الامتحان الشفاهي حتى أمكن لها الارتقاء بأزيائها القصيرة الى أعلى الرتب الجامعية الى الاستاذية والهاتف الجوال شغال. 5 وجد الجعل الكبير، رئيس التحرير في هذه المعركة، نواة أولى صالحة لتقسيم الساحة الثقافية وحين حضر الجعل الصغير بتقريره اليه، وجه له الملاحظات الآتية: 1 عليك أن لا تنقل الحقيقة مثلما هي، فالحقيقة تحتاج الى أكاذيب 2 للحقيقة وجوه، ولابد من إبراز جانبها الكاذب، لماذا؟ لأنه جذاب للقراء 3 ضحايا جريدة »العقرب« قلة، في الواقع، لأنهم، في الأصل ينتجون سموما، فأولى بهم ان يلدغ بعضهم بعضا. 4 لا تخف عليهم ولا ترحمهم، فإنهم لا يعرفون الرحمة 5 الكذب يستدعي التكذيب كما التسمم يستدعي الترياق 6 القراء يحبون الحقيقة والحقيقة غير مغرية اذا كانت عارية، لاحظ معي، إنّ الناس، الرجال خاصة، لا يلتفتون الى النساء المستلقيات على الشواطئ بينما تشرئب أعناقهم وتسيل أرياقهم وتخرج أوراقهم الى النساء المرتديات »السفساري« في الشارع، لأن »المسفسرة« لا تظهر تفاصيل جسدها، ولذلك يجتهد الرجال في التطلع الى مفاصل جسدها من وراء الساتر، ويتخيلونها، ويجردونها من ملابسها بفعل الرغبة في معرفة الحقيقة... 7 علينا القضاء على الافكار الموجعة للرؤوس، وترويج الاشاعة للترويح على النفوس، ولقد قرأت أخيرا مقالا خطيرا بالأنقليزية يشير صاحبه الى أن عصرنا يعاني من مرض عضال هو الكآبة. 8 عندنا اللسعات، واللدغات، وعندنا في المقابل ما يطيّب الخاطر. ولكن ما يطيّب خاطر هذا قد يعكّر مزاج ذاك. ما العمل؟ إنّ خاصّية كلّ دواء هو أنه يقضي على داء، ولكنه في الوقت نفسه ينمي وينعش داءا آخر... 9 لا بد، لك، كجعل صغير من خيال، فالخير يلزمه الصالون والأرائك، والكراسي والزرابي، والكؤوس والرؤوس، حتى يكون مقنعا للقارئ الذي لابد أن نكسبه كعضو قارّ في مهرجان النميمة، أما كيف ذلك فأمر يلزمه ضرب (أو قل) لسع أمثلة حية فالى اللقاء في المرّة القادمة. 6 يسأل الجعل الصغير كبير الجعلان: أعطني أموالا، إني جائع اذهب الى كاتب، أو مثقف، أو شاعر، أو فنان، تغذّ على مائدته ولكن ليس لي أموال... لو كانت الدنيا بخير، لكنت أنت الذي تعطيني المال مقابل هذه النصائح الذهبية التي تدل على خبرة واسعة لا تتاح الا لمن له باع وذراع، لا لقول الحقيقة، فالحقيقة تسبب الأوجاع التي أقلها الصداع لذلك هي لا تذاع انها تشاع، ويتردد صداها في الأسماع... اذهب أيها الجعل الصغير... لقد بدأت تتدرب على الصناعة واحمد ربك أنّك تعمل عندي، وإني ألاحظ عليك أعراض النميمة، لقد بدأت تخطو في بحور الامتاع وعليك أن تبحر طويلا حتى تصل الى شواطئ الابداع. وختم الجعل الكبير خطابه الى الجعل الصغير: إني رجل من برج العقرب، فلا تتحرك اذا مشيت على جسدك في هذه الحالة، فإني أضرب احذرني... إني من برج العقرب فلا تقرب، فأنا لا أخشى أحدا. سأل الجعل الصغير الجعل الكبير: ألا تخشى رؤوس المثقفين