رئيسة الحكومة: مراجعة منظومة الصفقات العمومية من بين أولويّات الدّولة    رغم توفّر بقية المواد الأساسية...لماذا تختفي «الزبدة» من أسواقنا؟    مصر.. قرار جديد للنيابة العامة في فضيحة الاعتداءات .... بمدرسة دولية    الرابطة الثانية    القبض على المتّهم وتحقيق لكشف الأسباب .. يحرق سيّارات ويحاول احراق بيت بساكنيه!    فندق الجديد .. وفاة أب إثر سقوطه من درج منزله ونجاة طفله    ذبحه وقطع عضوه الذكري.. خليجي يرتكب جريمة مروعة في مصر    افتتاح الدورة 26 لأيام قرطاج المسرحية    فنون القص وعجائبية الاحداث في رواية "مواسم الريح" للأمين السعيدي    أولا وأخيرا .. خيمة لتقبل التهنئة و العزاء معا    تالة هي أبرد منطقة في تونس اليوم...علاش؟    وزارة الاسرة تنظم الملتقى السنويّ التكوينيّ لفائدة 51 مديرة روضة أطفال عموميّة دامجة    رابطة الأبطال الافريقية ..الجيش الملكي المغربي ينهزم أمام مضيفه يانغ أفريكانز التنزاني (1-0)    بطولة افريقيا للرماية بالقوس والسهم: ميداليتان برونزيتان لتونس    قبلي - استعدادات مكثفة لتنظيم العاب المنظمة الوطنية للثقافة والرياضة والعمل    كاس رابطة ابطال افريقيا: الترجي يكتفي بالتعادل مع الملعب المالي    سفير الاتحاد الأوروبي بتونس يعبر عن الانفتاح على مقترحات تحديث الاتفاقيات التجارية وملائمتها مع التحولات الجيو-سياسية والاقتصادية    نحو ابرام اتفاقية شراكة في القطاع الفلاحي مع الباكستان    خبير يُحذّر من تخفيض أسعار زيت الزيتون في تونس    ليفربول ضد نوتنغهام فورست اليوم..وقتاش والقنوات اللي باش تبثّ اللقاء    ألعاب التضامن الإسلامي (الرياض 2025): تونس تنهي مشاركتها في المركز الخامس عشر    شكوني خنساء مجاهد اللي قتلوها بالزاوية في ليبيا بالرصاص؟    أبرد بلاصة في تونس اليوم السبت... الرصد الجوي يكشف    "أطباء بلا حدود" تحذر من انهيار الوضع الإنساني في غزة    اللجنة المحلية لمجابهة الكوارث بهذه الجهة تعلن عن هذا القرار..#خبر_عاجل    في بالك في كوجينتك عندك : سر طبيعي يرفع المزاج ويقوّي الصحة    جندوبة: تساقط الثلوج في عين دراهم (صور)    خلال زيارته لمؤسسات تكوين بالجزائر وزير التشغيل يستعرض تجربة تونس في مجال التكوين المهني    ردا على الاتهامات.. راغب علامة يوضح موقفه من أزمة فضل شاكر    عاجل : صراع علني لشيرين عبد الوهاب يكشف لأول مرة    جنوب إفريقيا: المشاركون في قمة "العشرين" سيصدرون بيانا مشتركا رغم معارضة واشنطن    عاجل/ اطلاق سراح هذا النائب السابق بالبرلمان..    لأول مرة في تونس: إجراء 3 عمليات دقيقة بالليزر الثوليوم..    الوكالة الوطنية للدواء ومواد الصحة تنظم سلسلة من الجلسات التوعوية عبر الانترنات لدعم جهود مكافحة المضادات الحيوية    مدينة تغرق في الظلام...لأكثر من شهرين    افتتاح معرض والإعلان عن نتائج مشروع ضمن مبادرة جديدة لإحياء المدينة العتيقة بسوسة عبر دعم الحرف التقليدية وتطوير الاقتصاد المحلي    مهرجان القاهرة السينمائي : عفاف بن محمود تفوز بجائزة أفضل ممثلة في مسابقة &1649;فاق السينما عن دورها في "الجولة 13"    الدورة الثالثة للصالون الدولي للانتقال الطاقي تحت شعار "الانتقال الطاقي ... نحو تنمية مستدامة" من 26 الى 28 نوفمبر الجاري    العاصمة: الاحتفاظ بصاحب دراجة"'تاكسي" بعد طعنه عون أمن داخل مركز    مرصد سلامة المرور يدعو مستعملي الطريق إلى التقيّد بجملة من الاجراءات في ظل التقلبات الجوية    اليوم السبت فاتح الشهر الهجري الجديد    عاجل: الترجي اليوم ضد الملعب المالي: التشكيلة المتوقعة وهذه هي الغيابات    الشتاء يطرق الأبواب: كميات أمطار قياسية وثلوج بالمرتفعات...شوف قداش    عاجل: إيقاف الدروس بعين دراهم بسبب الثلوج    ترامب ينهي الحماية القانونية للمهاجرين الصوماليين في مينيسوتا    أوّل لقاء بين ترامب وممداني في البيت الأبيض    وزير الاقتصاد: الوضع الاقتصادي في تونس يعدّ جيّداً والحديث عن "أعمق أزمة" غير صحيح    أيام قرطاج المسرحية: افتتاح بطعم العمالقة    وزيرة الصناعة: صادرات تونس من منتجات النسيج ستتجاوز 7.5 مليون دينار    مرّة في الأسبوع: انشر ''المخادد' للشمس...    اتفاقية تمويل بقيمة 1333 مليون دينار لفائدة الستاغ..#خبر_عاجل    عاجل/ تراجع الثروة السمكية بنسبة 60% في هذه الولاية..    عاجل/ نشرة متابعة للوضع الجوي..أمطار بهذه المناطق..    رغم فوائده الصحية.. 6 مخاطر محتملة للشاي الأخضر..    وزيرة الشؤون الثقافية تكشف ملامح الإصلاح الشامل للقطاع    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    خطبة الجمعة: الإحسان إلى ذوي القربى    السبت مفتتح شهر جمادي الثانية 1447 هجري..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حديقة بلا سياج : عابرُ الأجيال
نشر في الشروق يوم 10 - 04 - 2012

في 10 أفريل 1917، أي في مثل هذا اليوم، وُلد الأديب المُبدع البشير خريف في مدينة نفطة قبل أن تنتقل عائلته من الجريد إلى العاصمة التونسيّة حيث شبّ وتعلّم ومارس العديد من الحِرَف إلى أن التحق بمهنة التعليم التي مكّنته من بعض الراحة النفسيّة والماديّة كي يكتب وكي يكون له ما كان من شأن في القصّة والرواية.


أذكُرهُ ذاتَ ملتقًى في المركز الثقافيّ بالحمّامات سنة 1982. ذهبنا نحتفي به بمبادرة من محمد رشاد الحمزاوي مدير المركز يومئذ. كنّا مجموعة من الكتّاب والنقّاد والإعلاميّين وكنتُ أَحْدَثَهُم عهدًا بالساحة وبدا لي الرجل أسطورة تتحرّك بقيافته المميّزة وجرابه المُثقل بلوازم طقوسه ونظراته المتوهّجة بإقبال على الحياة مَشُوبٍ بنوع من الزهد الساخر.

كان يخرج إلى الحديقة بين الحين والآخر فيتناول عدّة التدخين ويشرع في ممارسة طقسه وكانت تلك فرصةً لم أُضيّعها. بدأتُ الحوارَ معه متهيّبًا إلاّ أنّه سرعان ما غمرني بذلك المرح المحتشم الذي يميّزه فإذا نحن نذهب بالحديث في كلّ اتّجاه. وكم بدا لي سعيدًا بذلك الملتقى، سعيدًا بأن يُنصفه النقّاد أخيرًا بعد أن عانى من أسلافهم في بداياته حتى كاد يُقلع عن الكتابة لولا قلّةٌ قليلة من الأذكياء على رأسهم محمد فريد غازي.

قلتُ له إنّي افتتنتُ بعالمه الروائيّ قبل أن أقرأ له حرفًا واحدًا عن طريق الاستماع إلى روايته «برق الليل» في صيغتها الإذاعيّة. كنّا نتحلّق حول المذياع أنا وإخوتي ونسرح مع الأحداث ونحلم ونحلّق وكأنّنا نمارس طقسًا من الطقوس. قلتُ له إنّي قرأتُ الرواية بعد ذلك فشعرتُ بغناها دون أن تذبل في ذاكرتي صيغتها التمثيليّة بأصوات عبد العزيز العرفاوي ونجوى إكرام ومحمد الهادي وعز الدين بريكة. فابتسم وحدّثني عن المسرح الإذاعي ومسرح الخشبة وتصاعدت بيننا حلقات الدخان.
لم تهرم أعمال البشير خريّف ولم يخطْ شعرَها الشيبُ الذي وخط شَعْرَ أعمال رُوّادٍ كثيرين لم يبق من ريادتهم إلاّ السّبْقُ الزمنيّ. ولعلّ السرّ في ذلك أنّه كان سبّاقًا إلى فهم أمور جوهريّة بوّأته مكانته وجعلته طريفًا مُلهِمًا حتى اليوم ومنحت أعمالَهُ قدرتَها العجيبة على عبور الزمن.

فهم أنّ الكتابة ليست عملاً ذهنيًّا محضًا بل هي معادلة خيميائيّة تعثر على سحرها في المزج بحسابٍ بين ما هو ذهنيّ وما هو من لحم ودم وأحاسيس لذلك نهضت شخصيّاتُ أعماله حيّةً نابضةً وغادرت عالَمَ التخييل لتقبض على المركز من الوجدان الجماعيّ على أرض الواقع.

فهم أنّ القبض على المركز يتمّ انطلاقًا من الهوامش لذلك بنى رواياته وأقاصيصه بدايةً من القاع والأطراف وأنصف المهمّشين واعتنى بالشخصيّات الثانويّة وانتزع البطولة من الوجهاء وذوي الأمر وانحاز إلى الكادحين والمستضعفين والعبيد فعبّر عن آلامهم وأحلامهم وصوّر نضالهم من أجل التحرّر والانعتاق.

فهم أنّ التجربة الأدبيّة لا معنى لها بعيدًا عن التجربة الحياتيّة وأنّ التخييل لا قيمة له دون تدقيقٍ وتحقيقٍ لذلك عبّر عن الجنوب التونسيّ كما خبِرَه وصوّر المدينة التونسيّة كما عرفها وغرس أحداث أقاصيصه ورواياته في تربة التاريخ فعرف كيف ينفذ إلى عمق عصره وعرف من ثمّ كيف يعبّر عن أوجاع الإنسان ومسرّاته في كلّ عصر.

فهم أنّ كتابة الذات هي الطريق إلى كتابة الآخر وأنّ الكتابة لأبناء البلد وعنهم هي الطريق إلى كتابة العالم وأنّ الانغماس في اللحظة والبيئة وروائحها وألوانها وأصواتها هي مفتاح المصداقيّة الجماليّة لذلك لم يستورد أسلوبًا ولم يستلف مُعجمًا ولم يصطنع إيقاعًا بل استمدّ كلّ ذلك من تُربته وأصرّ على المُصالحة بين الفُصحى والعاميّة مُصالحةً إبداعيّةً لا تُلقي بالاً لشقشقة الإيديولوجيا فإذا هو حاضرٌ أبدًا جديدٌ دائمًا عابرٌ للأجيال.

لم أكن أعلم يومَها أنّ الرجل كان يستعدّ للرحيل النهائيّ في 18 ديسمبر 1983 وأنّي كنت أراه وأحادثه للمرّة الأخيرة. وهَبْنِي فعلتُ! ماذا كنتُ أقول له غير ما قلتُ أو غير ما أقول اليوم وأنا أستحضر ذكرى مولده فأعود إلى أوراقي وأنظر في صُورٍ فوتوغرافيّة تشهد على ذلك اللقاء وأتصفّح «الدقلة في عراجينها» و«مشموم الفلّ» و«بلاّرة» و«برق الليل» فأراه حيًّا يُرزق في أعماله بل أكثر حياةً من أيّ وقت مضى؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.