اضرابات عامة واحتقان اجتماعي يمس الاستقرار هي أحداث ملموسة متواصلة مست عدة مناطق في الأشهر القليلة الماضية والى حد اليوم، واستقطاب ثنائي حاد يشق الفاعلين السياسيين والمتابعين له ينخر الجسم السياسي منذ مدة..فهل لهذا الاستقطاب الحاد تأثير على الاستقرار الاجتماعي؟ تشهد عدد من الجهات والمعتمديات اضطرابات اجتماعية كبيرة، كالذي حصل في تالة من احتجاجات عارمة أدت الى حرق مقر النهضة في المدينة وفي معتمديات أخرى من سيدي بوزيد ومن اضراب عام في الوسلاتية من ولاية القيروان واخر بقبلي وتواصل الاحتقان في عدد من معتمديات قفصة وكلها احداث حاصلة خلال هذا الأسبوع. و لم تهدأ هذه الاضطرابات منذ أشهر، فقد شملت مناطق مختلفة في البلاد لم تقتصر على الجهات الداخلية فحسب وانما بلغت عددا من الجهات الساحلية وأيضا أحياء ومعتمديات في أحزمة العاصمة.
ويذهب المتابعون للساحة السياسية أن البلاد تشهد حالة استقطاب ثنائي حاد، الى درجة أن أبو يعرب المرزوقي الوزير المستشار المكلف بالثقافة والتربية لدى رئيس الحكومة ذهب الى أن البلاد «تعيش صراعا بين ثقافتين» بل «نموذجان متصارعان يشقان الواقع»، رغم الخطاب السياسي الذي يتشدق به ممثلو كلا الجانبين بالتحذير من أخطار هذا الانقسام.
ويؤكد مولدي قسومي المختص في علم الاجتماع السياسي أن هذا العراك السياسي الذي تعيشه البلاد يؤثر مباشرة في واقع الاستقرار الاجتماعي. ومن جانبه يحمل بلعيد ولاد عبد الله المختص في السوسيولوجيا غياب الاستقرار الاجتماعي الى خيارات الفاعلين السياسيين في هذه المرحلة. فكيف ذلك؟
استقطاب «مفتعل»
الاستقطاب الثنائي، تكاد يصبح هذا المفهوم مسلمة، توصف من خلالها أبرز الصراعات التي تشق واقع المشهد السياسي، بين محافظين ودعاة هوية وحداثيين في الجانب الاخر، انخرط فيها مجموعة هامة من التونسيين الى درجة اشتد فيها العراك والخصام بين الجانبين وهذا ليس بخاف عن أحد.
ويعتبر مولدي قسومي المختص في علم الاجتماع السياسي أنه وعودة الى الاطار المرجعي في تعريف الاستقطاب الثنائي، فيعد هذا فعلا واداة للممارسة السياسية ارتبطت بمرحلة أيديولوجية وتفترض اختلافا وصراعا عميقا على البرامج بين المتصارعين السياسيين وبين مشاريع مجتمعية مختلفة ومتناقضة بدرجة حادة.
ويستنتج هنا قسومي أنه لا يمكن الاقرار بوجود هذا الاستقطاب الثنائي في تونس في هذه المرحلة، فالاطار المرجعي في تعريفه له يؤكد أن المسألة لا تعد سوى حالة من المنافسة بين حركة النهضة والقوى السياسية الوسطية الليبرالية لاغير لأن المتصارعين هنا لا يحملان مرجعيات وبرامج اقتصادية متناقضة تذكر.
ويؤكد هذا الكلام البرامج الاقتصادية غير المتناقضة، سوى في الاختيارات العاجلة والحلول الآنية، لمختلف الفاعلين السياسيين عند تقديمها للمواطنين أثناء الحملة الانتخابية التي سبقت انتخاب المجلس الوطني التأسيسي، ويقول بلعيد ولاد عبد الله هنا « أن اختيار أغلبية الشعب كان واضحا تماما فالخصائص السوسيولجية للمجتمع التونسي تؤكد أنه شعب معتدل بحكم تواتر الحضارات عليه، وقد أثر الصراع بين ثنائية التطرف (يمينا ويسارا) عليه، فقد جعلته يحتار من سيختار ولمن سيينحاز فكان الاختيار على كتل وسطية مثل النهضة والتكتل والمؤتمر».
صراع على الهيمنة
عدم التناقض بين الخيارات الاقتصادية بين كلا القطبين الحداثي بتنوع الأحزاب التي تمثله والقطب المحافظ الذي كانت طليعته حركة النهضة بالأساس والذي يعتبره مولدي قسومي «ليبراليا براغماتيا، خاضعا للسوق» يجعل من الصراع الدائر ذو أبعاد أخرى.
ويؤكد قسومي أن الصراع الحاصل هو صراع على الهيمنة على مفاصل الدولة وفرض المرجعيات الثقافية بالأساس، وقد انطلق ذلك بعد 14 جانفي مباشرة، فقد تكونت هذه الأحزاب حقيقة وظهرت للساحة في نفس الوقت بعد هذا التاريخ وهي تتصارع من تلك الأيام الى اليوم على فرض لونها لا غير وقد تمكنت حركة النهضة من أن تكون في الصدارة في هذه المرحلة الانتقالية الثانية.
ويبدو أن الصراع لا يزال حملة انتخابية سابقة للأوان مستمرة، تفترض أن جميع المواطنين هم أصوات احتياطية استراتيجية يجب أن تختار هذا اللون أو ذاك، كما يفسر ذلك قسومي.
وكانت أغلب أحداث العنف أو الصراعات الدائرة التي انخرط فيها كلا القطبين شملت عنفا سلط على مثقفين، وحملات تشويه وتخوين لرموز هذه الجهة أوتلك وعلى ادراج الشريعة من عدمه في الدستور الجديد ومن منع لاجتماعات هذا الطرف أو ذاك، ولم تكن الصراعات على البناء والحلول العاجلة هي الأساس والمرجع. ويؤكد بلعيد ولاد عبد الله «أن السياسيين يغذون واقع الانقسام الحاد المفتعل والذي لا علاقة لأغلب التونسيين به»، ومن ناحيته يعتبره قسومي تنافسا بين الأحزاب المتعاركة على الرصيد المجتمعي (أي جمع عدد أكبر ما يمكن من الأنصار والمتعاطفين)، ويعتبر أن الآلية في ذلك هي التحكم في مفاصل الدولة كما هو حاصل اليوم من محاولات الهيمنة الفكرية والأيديولوجية ومحاولات تطويع لمؤسسات الدولة أو العمل على استقطاب الجمعيات والمنظمات أو اغراءها للتقارب والانضمام للصف.
انكشف المستور
في المقابل، فان أغلب التونسيين من العاطلين والفقراء وذوي الوضعيات الهشة في الجهات المناطق المحرومة والتي مازالت تعاني من انتشار البطالة والتهميش، لم تهدأ الى الآن وتتحرك بين ليلة وأخرى في احتجاجات متواصلة، كما أن هذه التحركات تطفو بين الفينة والأخرى في عدة مناطق، في الساحل وفي أحزمة العاصمة أحيانا (كما حصل في حي الملاحة في رادس بالضاحية الجنوبية مؤخرا).
ويفسر ذلك بلعيد ولاد عبد الله المختص في علم الاجتماع الى أن السياسيين اقترفوا خطأ فادحا في حصر المشكلة بين المحافظين والحداثيين، ولكن المواطنين اكتشفوا أن الاشكال لا يكمن لا في الهوية ولا في شيء آخر، ففي اختيارهم لحركة النهضة في الانتخابات تعبير عن ميولاتهم العربية الاسلامية الوسطية ولكنهم اكتشفوا أن المشكلة الأساسية هي معيشتهم وتحسين أوضاعهم حسب تعبيره.
ويضيف ولاد عبد الله «ليس للمواطن مشاكل في ما يخص الهوية ولا الخيار الثقافي وانما مشكلته في التنمية وفي توفير معيشته اليومية وهي الأهم بالنسبة له، لذلك تتواصل التحركات الاجتماعية بعد أن اكتشف أنه ليست هناك حلول تذكر في هذا الجانب».
ومن جانبه يرى مولدي قسومي أنه وعلى مستوى استنباط التونسي للواقع السياسي، «فقد اتضح اليه أن كلا من اليمين واليسار والوسط بالمفهوم الهندسي في تقسيم الأحزاب ثلاثتها كما ثلاثتها» فالصراع لم تكن له نتائج على المستوى الواقع الملموس المعيش.
وبما أن البنية الذهنية للمجتمع التونسي تحكمها «عقلية انتظارية» تنظر للعطاءات والهبات الملموسة والمشاريع والحلول الواقعية المقدمة فان عدم الانخراط الفعلي في العمل وفي ايجاد الحلول للواقع المتردي الذي تعيشه كثير من الجهات أدخل المجتمع في حالة من الهيجان والانخرام الاجتماعي حسب ما جاء على لسانه.
غياب الضابط الاجتماعي
استنتاج كل من المختصين المتدخلين في هذا المقال، بأن للصراع الدائر بين قطبي المحافظين والحداثيين اليوم ساهم في تواصل عدم الاستقرار الاجتماعي بل وفي تغذيته أيضا، بل يعتبر ولاد عبد الله أن المواطن اكتشف الفرق الشاسع بين ما قدم من برامج في الحملة الانتخابية وماهو حاصل اليوم من «بقاء دار لقمان على حالها»، يطرح تساؤلات عن الحدود التي يمكن أن تخفف من وطأة هذا الانفلاتات والاحتجاجات العارمة المسببة في خسائر اقتصادية فادحة وغياب للاستقرار الأمني.
ويفيد هنا ولاد عبد اله بأن غياب الضابطة الاجتماعية من أمن ومؤسسات دولة يزيد في تدهور الوضع وتزايد الاحتجاجات، ويفسر ولاد عبد الله ذلك بأن «الاشكالية تكمن في موقف الدولة والأحزاب الحاكمة المتراخية في اتخاذ القرارات الصارمة لعلاج هذه التحركات والانفلات، وهو يعود الى أجندة حالية ومستقبلية تتعلق بتواصل الحكم أساسا».
كما ينتقد ولاد عبد الله أيضا عدم قدرة الأحزاب على تأطير المواطنين وتغليب المصالح الكبرى للبلاد في معالجة مظاهر عدم الاستقرار الاجتماعي. وفي نفس السياق يرى قسومي مولدي أن غياب الضابطة الاجتماعية تعني غياب الجهاز التعديلي، من مؤسسات للدولة تحفظ قواعد لعبة التنافس على السلطة بما يجعل الصراع الحاصل اليوم، دون ضوابط واحترام لمعايير المنافسة بين المختلفين، «فأصبح الصراع متجها نحو محاولة الهيمنة الأيديولوجية وللتحكم في مفاصل الدولةلا غير» حسب تعبيره.
ويعتبرمولدي قسومي ما يحصل اليوم من تنافس حاد بين القطبين لعبة من أجل الهيمنة الأيديولوجية أولا والتحكم في مفاصل الدولة ثانيا وخلق استعدادات للعنف (مليشيات وأذرعة عنيفة) ثالثا، وهو ما يصفه ب«خارج البوصلة الانتقالية ومسقطة في الزمان فالمرحلة تأسيسية بالأساس وهي محاولات لفرض أجندة سياسية بكل الطرق».. ويشير القسومي منتقدا نظرية «التدافع الاجتماعي» وهي نظرية المفكر راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التي تفيد اختصارا باعادة الفرز بطريقة أكثر وضوح و»تترك الدولة المجتمع يتدافع ويتنافس ويتجاوز باختيار من يريد»، مؤكدا أن مقومات اللعبة التنافسية الحالية غير متوفرة.
هذا العراك و«التدافع» المتواصل..يكلف التونسيين خسائر اقتصادية واجتماعية جمة، ويغذي الاحتقان الحاصل، ويؤجل عوامل الاستقرار..ويجعل متابعا بسيطا لانتخابات فرنسية حاصلة أخيرا، احتد فيها الصراع بين يمين ويسار وانتهى بعد اعلان النتائج فورا ب«تماسك» الشعب الفرنسي ..وعودة الفرنسيين الى العمل والدراسة والابداع ...لماذا لا يحصل عندنا هذا؟.