سال حبرٌ كثير في مفهوم الثورة المُضادّة.. وهي ترجمةٌ غير موفّقة للعبارة الفرنسيّة contre-révolution وتعني الانقلاب على الثورة وعلى أهدافها باسم الثورة أحيانًا وعن طريق أدواتها في أكثر الأحيان. ليس من ثورة إلاّ وهي بحث عن العدل والحريّة ضدّ القهر والاستعباد وضدّ ما نسمّيه في تونس «الحقرة» وهي عبارة جامعة تشمل دلالات الفساد والاستبداد حين يتحالفان وينفردان بالأمر ويستضعفان الأغلبيّة ولا يكتفيان بالهيمنة عليها بل يستعرضان احتقارهما لها بوقاحة.
الثورة المُضادّة بهذا المعنى هي المُحافَظة حين تنقلب على الرغبة في التغيير، وهي الثوابت حين تُحاصر روح المغامرة والتجديد، وهي القيود حين تخنق الحريّات، وهي الضوابط حين تُصبح اعتداءً على الحقوق..
ومن علامات هذا الانقلاب أنّه يخوّن كلّ معارضة له على أساس أنّها حنين للعهد السابق وتجميل له.. وأنّه يسعى إلى تنفيذ مشروع لا علاقة له بالثورة، سواء تكلّم باسم الدنيا أو باسم الدين. وأنّهُ يستكثرُ على المواطنين تشبّثَهم بحقوقهم بدعوى أنّهم كانوا محرومين منها في السابق!! وكأنّ على السجين السابق أن يرضى بالسجن من جديد ما دام السجّان قد تغيّر!
لا أجد تحديدًا موجزًا يخرج بهذا المفهوم من السياسة إلى الفكر أفضل ممّا ورد في فقرة لأندري ليو وهو من مواليد 1824 حين كتب: «وُلدت الثورة على أيدي فلاسفة مقتنعين ورجال شُجعان، إلاّ أنّها مُنِعت من إتمام مهمّتها حين اعترض الماضي طريقها.. لقد جدّدت كثيرًا.. لكنّها عجزت عن القيام فورًا بتغيير القالب القديم، حيث لا يمكن للفكرة الجديدة أن تنمو.. »
نقف هنا عند عبارات أساسيّة: الماضي المتشبّث بالبقاء. الفعل الناقص. القالب القديم الذي لا يمكن أن تخرج منه الفكرة الجديدة.. عبارات تدلّ كلّها على أنّ الانقلاب على الثورة يُولد دائمًا من رحم كلّ ثورةٍ لا تمضي بالفعل إلى تمامه!
في وسع المؤوّل أيضًا أن يضع هذه الفقرة في سياق الحاضر فيقول إنّ الحكومات التي تنشأ عن ثورات ليست ثوريّة بالضرورة. وأنّ الشكل الديمقراطيّ قد يفتح الطريق إلى غير الديمقراطيّين. من ثمّ ضرورة اليقظة.
ليس من شكّ طبعًا في أنّ إمكانيّة الانقلاب على الثورة ليست حكْرًا على يمين أو يسار وليست مرتبطة بحزبٍ مُعيّن بقدر ما هي مرتبطة بذهنيّة مُعيّنة تستمرّ في الخروج من القالب نفسه وتعيد من ثمّ إنتاج الجلاّد وتوليده من الضحيّة نفسها!!
في هذا السياق تكتسب التصريحات الناريّة التي صاحبت الاستقالات الأخيرة أهميّتها البالغة: وزيرُ الماليّة اتّهم أغلب أعضاء الحكومة بالدفع في اتّجاه منهج سياسيّ انتخابيّ! رئيسُ الهيئة الوطنيّة لإصلاح الإعلام أكّد محاولة السلطة تركيع الإعلام. المستشار الإعلاميّ السابق لرئيس الجمهوريّة قال إنّ الثورة المُضادّة هي داخل الترويكا وليست خارجها!
لم تعد الثورة المُضادّة مجرّد فزّاعة إذنْ! ولم تعد كائنًا طائرًا مجهول الهويّة (OVNI)! ولم تعد دون سكنٍ قارّ (SDF)! بل هي اليوم حقيقة ثابتة تبرهن عليها تصريحات من كانوا بالأمس القريب من رموز الترويكا!
الثورة المُضادّة هي التي تحكُمُ اليوم ساعيةً إلى الاستيلاء على الحكم إلى الأبد محاولةً الهيمنة على كلّ أجهزة الدولة!! ذاك ما يُفهَمُ من تصريحات المُقالين أو المستقيلين من الحكومة ومن مؤسّسة رئاسة الجمهوريّة!
طبعًا ما إن يقول هؤلاء شيئًا حتى يُمَثِّلَ به ممثّلو الحُكومة في المجلس التأسيسيّ وفي الفضاء العامّ! وليس من شكٍّ هنا في أنّ أحد الطرفين يكذب علينا جهارًا بلا حياء ودون أن يرفّ له جفن ودون أن يجفّ له ماء وجه!
فمن الكاذب؟
إذا كانت الحكومة بريئة من تهمة الثورة المُضادّة وإذا كان المُقالون المُستقيلون يكذبون عليها فلماذا لا تتصدّى لهم بغير السفسطة ولماذا لا تفضح أكاذيبهم بالحُجّة ولماذا لا تواجههم بما يستحقّون من تتبّعات عدليّة؟
وإذا كانت الحكومة هي التي تكذب على الشعب وتنقلب على ثورته فما الذي ينتظر شركاؤها في هذه اللعبة السياسيّة المغشوشة كي يرفضوا مواصلة الغشّ؟ وما الذي تنتظر المُعارضة كي ترفض مواصلة التمثيل في مسرحيّة لم تعد مُطابقة للنصّ الذي كتبه الشعب؟