لا يكاد أي مسار نحو توحيد قوى المعارضة من مختلف العائلات السياسية يخلو من مسارات موازية للتصدع والانشقاق... فهل حكمت هذه «المعارضات» على نفسها بالفشل؟ نفس التوصيف ينطبق أيضا على أحزاب في «الترويكا». منذ «صدمة» انتخابات 23 أكتوبر الماضي بدأت الأطراف السياسية ذات الأقلية داخل المجلس التأسيسي أو تلك التي لم تنجح في الحصول على أي مقعد البحث عن صيغ للالتقاء ضمن مسارات توحيدية ومبادرات لتنسيق العمل ضمن جبهة واحدة والعمل على دخول الانتخابات القادمة ضمن قائمات موحدة وببرامج واحدة، أو حتى ضمن عمليات انصهار بين عدد من الأحزاب ذات المرجعية الفكرية الواحدة والمتقاربة من حيث المواقف السياسية وتوصيف الوضع السياسي الراهن وحاجاته.
تجزئة المجزّأ؟
هذه المسارات تجسدت عبر مؤتمرات توحيدية أو تأسيسية، ولا يكاد أي من هذه المؤتمرات يخلو من حركات احتجاج وتحفظات من داخل الحزب الواحد أو العائلة السياسية الواحدة، حتى أن مسارات التوحد كانت تسير بشكل متواز مع مسارات التصدّع وهو ما جعل نتائج هذه النزعات التوحيدية دون المستوى المأمول، حتى أن البعض وصف ما يجري على الساحة الحزبية بأنه تجزئة للمجزّأ أصلا.
وقد تكررت ظاهرة التصدعات والانشقاقات – على هامش عقد المؤتمرات التوحيدية- مرارا بدءا بما شهده المؤتمر الأخير للحزب الديمقراطي التقدمي ومؤتمر انصهار الديمقراطي التقدمي وأفاق تونس وبعض القوى الوسطية والمستقلة الذي انبثق عنه ميلاد الحزب الجمهوري وصولا إلى المؤتمر التأسيسي للتيار الوطني الديمقراطي الذي اختتم قبل أيام بالعاصمة ولم يخل من أصوات أبدت تحفظها على هذا التوجه وعدم التزامها بما أقره المؤتمر... مرورا بتشكيل «المسار الديمقراطي الاجتماعي» الذي رافقته تحفظات من جانب شق من حزب العمل التونسي وفي وقت لاحق شهد انشقاق بعض الأطراف المحسوبة على حركة التجديد.
حركة التجديد التي خاضت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي ضمن قائمة القطب الديمقراطي الحداثي لم تجد صيغة للتوحّد مع الحزب الديمقراطي التقدّمي (سابقا) رغم المحاولات المتكرّرة، ومضى كل حزب في طريقه، فضمت «التجديد» بعضا من مستقلي القطب وشقا من حزب العمل التونسي وأنشأت «المسار الديمقراطي الاجتماعي» لكن هذا المسار لم يلبث أن شهد انشقاقا جديدا بإعلان شق منه الانضمام إلى حزب «حركة نداء تونس» بزعامة الباجي قائد السبسي.
أمّا الحزب الديمقراطي التقدمي، الذي عقد آخر مؤتمر له في أفريل الماضي وأعلن حينها انصهاره مع حزب آفاق تونس وبعض الأحزاب والقوى المستقلة ضمن «الحزب الجمهوري» فقد شهد حركة تململ من بعض قياداته في اليوم الثاني للمؤتمر، ولم تحن ساعة إعلان ميلاد الحزب الجديد حتى كان شق من مناضلي الحزب الديمقراطي التقدمي قد أصدر بيانا ضمّنه تحفظاته على هذا التوجه الذي سار فيه الحزب وأطلق حركة تصحيحية داخل الحزب لا تزال تعمل على إيجاد صيغ التقاء مع «غاضبين» على توجهات أحزابهم ومنشقين حديثا عنها.
الديمقراطيون.. غير ديمقراطيين !
وفي آخر حركة لالتقاء القوى الوطنية الديمقراطية انعقد المؤتمر التأسيسي للتيار الوطني الديمقراطي، ولئن اعتبر المؤتمرون أن هذا التيار حقق إنجازا كبيرا بجمع شتات الوطنيين الديمقراطيين فإنّ سير المؤتمر وما أسفر عنه أكّدا أنه لا شيء تغير في هذا التيار، فلا القيادة ولا المكتب السياسي ولم يبد أي أثر أو بصمة يمكن ان يتركها مؤتمر تأسيسي لتيار ناضل لعقود وسعى مرارا إلى إيجاد صيغة تلتقي عندها مختلف التصورات والمواقف التي تجمع الوطنيين الديمقراطيين، لكن الخلافات والانشقاقات جاءت من الداخل مرة أخرى، وفي مناسبتين.
فقبل أشهر بدأت بوادر التصدع في حزب العمل الوطني التونسي الذي رفض المضي في نهج توحد التيار ضمن الرؤية التي طرحها أمين عام حركة الوطنيين الديمقراطيين شكري بلعيد، واكتفى شق منشق عن حزب العمل الوطني التونسي بالمضي في هذا النهج، يتقدمه محمد جمور الذي انتُخب نائبا للأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين المنبثق عن المؤتمر.
وتزامنا مع عقد هذا المؤتمر أصدرت الهيئة التأسيسية لحزب العمل الوطني الديمقراطي (برئاسة عبد الرزاق الهمامي) بيانا أكدت فيه أن «ما يحصل هذه الأيام هو مؤتمر بين حركة الوطنيين الديمقراطيين وعناصر أقليّة منشقّة عن حزب العمل الوطني الديمقراطي وهو لا يلزم الحزب في شيء وإنّ حزب العمل الوطني الديمقراطي غير معني بالمشاركة في هذا المؤتمر وإنّ مهمة توحيد الوطنيين الديمقراطيين مازالت مطروحة للإنجاز على أسس نضاليّة وسياسيّة ترقى بالمضمون السياسي إلى مستوى الإدراك الجدي ّ لحقيقة الأوضاع دون قفز على الواقع واستحقاقاته الملموسة وتطوّر البناء التنظيمي على أساس احترام الديمقراطيّة في التسيير والعمل الجماعي ودون استثناء أيّ مكون من التيار الوطني الديمقراطي وذلك بالقطع مع الشكل الهرمي الذي يجمع فيه مسؤول واحد الصلاحيات الأساسية في القيادة والابتعاد عن إنتاج البيروقراطيّة والفشل السياسي و التنظيمي.»
وفي السياق ذاته أصدر ثلاثة من الأعضاء المؤسسين لحركة الوطنيين الديمقراطيين، هم حسين الفالحي وعز الدين المعيوفي وحاتم بن علي بيانا أبدوا فيه تحفظاتهم على المسار الذي اتخذته الحركة بالمضي نحو المؤتمر التأسيسي لتوحيد القوى الوطنية الديمقراطية.
وندد الموقعون على البيان بما سموه «هذا التوجه الهدام وخرق قانون الحركة الأساسي وتعطيل مؤسساتها وانفراد الناطق الرسمي بالقرار فيها وتغوله على حساب بقية الأعضاء في سلوك تسلطي استبدادي».
وأبدى الموقعون على ذلك البيان الاحتجاجي استياءهم للنهج «الاستبدادي» الذي اعتمدته قيادة حركة الوطنيين الديمقراطيين و«مناهضتها لفكرة تقييم التجربة الحالية والاستفادة من نتائج التقييم في بناء التجربة الجديدة». وانتهى المؤتمر دون أن ينجح في جمع مختلف القوى الوطنية الديمقراطية في حزب واحد. ...و«الترويكا» أيضا
على أنّ ظاهرة الانشقاقات داخل الأحزاب لم تشمل أحزاب المعارضة فحسب بل إنها طالت على الأقل حزبين من أحزاب الترويكا الحاكمة (التكتل والمؤتمر) ولئن كان موعد انعقاد مؤتمر حزب التكتل غامضا خاصة أن صعوبات كبيرة عاشها الحزب على امتداد الأشهر الماضية ويُنتظر أن يطرح مؤتمره تحديات كبيرة على مستقبل الحزب فإن حزب المؤتمر من أجل الجمهورية عقد مؤتمره الثاني بعد موجة خلافات أدت إلى انقسامه. ولم يخل مؤتمر المؤتمر من «مشاكل» لم تؤثر في النهاية على نتائجه ولكن تبقي الباب مفتوحا أمام خلافات قد تنشأ بين الحين والآخر، ليحافظ حزب حركة النهضة لوحده تقريبا على تماسكه منذ حصوله على تأشيرة العمل القانوني وخوضه غمار الانتخابات وتجربة الحكم.