.....أذكر الآن فترة نهاية الثمانينات عندما كانت القصائد تلهج بالصور لدى نخبة من فتية الشعر على ضفاف شاطئ قليبية وفي حرارة أوت التي لم تمنع الشعراء انذاك من ايصال اصواتهم في زحمة تلك النقاشات المتصلة بالشعر والحداثة والنقد..اذكر الان تلك الوجوه الطافحة بالأمل الشعري وبالحياة والمحبة...اذكر كمال بوعجيلة، يوسف بن حمادي ومجدي بن عيسى ومحجوب العياري، بلقاسم اليعقوبي، نور الدين بن يمينة..وصاحب النورس العاشق الشاعر القادم من أعماق القيروان...عبد الرزاق الجملي...واخرين.. أتذكر كل ذلك وانا ألتقي صديقي هذا القيرواني الذي كانت البسمة غالبا ما ترتسم على محياه..كان يلتقط نوادر الكتاب والشعراء ولا يكف عن مشاكسة بعضهم وخاصة القاص عمار الشافعي هذا القادم من سيدي علوان المعروف بلطفه وبساطته واحلامه الجمة المفتوحة على الأنثى..والحياة..
في هذه المناخات عرفت عبد الرزاق الجملي الذي نشر اغلب نصوصه بالصحف التونسية وحضر عددا من المهرجانات شاعرا لا غبار عليه.. هذه الايام...التقيته وقد بدت عليه الفرحة التي يعرفها الادباء عند صدور اعمالهم..هو يكتب الشعر باللغتين العربية والفرنسية منذ سنة 1982 ،صدرت له رواية وبعدها ديوان شعر..
هذه الفرحة التي رافقت صدور مجموعته الشعرية التي نحن بصددها تبرز جانبا طفوليا لدى عبد الرزاق الجملي الذي تميزت كتاباته برقتها وخفتها وشعريتها باعتبار مجالاتها الانسانية والوجدانية والجمالية..
«النورس العاشق» هو عنوان هذا الديوان الذي حافظ على تسميته صاحبه لمدة عقدين حيث مدّ الشاعر عبد الرزاق الجملي علاقة مخصوصة مع ديوانه رغم ظروفه ومشاغله التي جعلته ينأى عن الساحة الشعرية..انه الاصرار الذي جعله يعود إلى الينابيع قولا بالشعر كحاجة جمالية في هذا الكون.. في تقديمه لهذا الديوان يقول الشاعر يوسف رزوقة :«العالم نافذة لدى عبد الرزاق الجملي، عبرها يرنو الى البعيد وعبرها يرى ذاته وقد اتخذت شكل نورس عاشق لابني يحلق من بحر الى بحر، على قلق، وبين جناحيه زرقة الحلم الذي في السماء وتموج السنابل التي في الارض وما تبقّى يؤسسه الشعراء، كما يقول هو لدرلين..وللنورس العاشق ان يقول الكون لونا اخر للحياة»..
هذا الديوان صدر عن مؤسسة وألوان وجاء في 112 صفحة من الحجم المتوسّط وضم عددا من القصائد منها:«رحيل في الغموض» و«عدّ تنازلي» و«قصيد الصيف» و«عاشق قبل الميلاد» و«النورس العاشق» و«قصيدة الصيف » و«كلام اخر» و«الوقت» و«قلبي قصر كثير الزحام» و«لا تغلق الباب والحاسوب» و«صديقي الشاعر» و«انا الماء اعطش» و«دموع أمّي» و«كتابة التلاشي حديث الجسد» و«سنوات من فشل» و«فصول والصرخة..» وقد قسم الديوان الى ابواب هي «باب الحب» و«باب الالم » و«باب الأمل» و«باب الشعر» و«باب الاحلام».
وفي مدخل الديوان نص نقدي للشاعر والناقد فيصل اليعقوبي بعنوان مقاربة اسلوبية لنص انا الماء اعطش اشتغل فيه على قصيدة هي من ابرز القصائد.في هذا العمل الشعري ومما جاء في هذا النص نذكر:«ان نص الشاعر عبد الرزاق الجملي «انا الماء اعطش» نص جميل وحديث اتخذ من الماء مولدا انشائيا فكان الماء بالبناء دراما وبالايقاع غناء، وبالتركيب صراعا وبالصورة رمزا فكأن الماء بتلك الخصائص جميعا مرآة الانسان بجميع ابعاده السياسية والفنية والفكرية والاجتماعية والعاطفية فتلبس الماء بسوائل اخرى منها الدم والدمع والعرق والسم والريق والخمير والحبر.
ان نص عبد الرزاق الجملي«انا الماء اعطش» «بقدر ما كان صغيرا في حجمه كان كبيرا في شعريته جمالا وحداثة». هذا الديوان هو باكورة اعمال الشاعر الجملي الشعرية حيث جاءت القصائد معبرة بعمق وصدق عن وجدان الشاعر الذي رأى في حياة الناس وهمومهم وهواجسهم فقدا بارزا لقيمة الحب وقيمة التواصل..
و«النورس العاشق» ديوان يحمل بين طياته حكاية حيث كان يمكن ان يصدر قبل عقدين ولكن حفت بعملية النشر ملابسات تتصل بما يعانيه الكتاب عند نشرهم اعمالهم من عراقيل تتصل بالمادة وبالنشر ولكنه حين اطل هذه الايام جعلنا لا نشعر بهذا التأخير باعتبار الحياة المفتوحة والممتدة التي تفرضها القصيدة وهنا نعود الى مسألة الخيال الشاسع لدى الشاعر عبد الرزاق الجملي الذي يكتب نصه ليظل مقروءا في شتى الازمنة في أية جغرافيا..
انها الكتابة التي لا يلغيها مرور الاعوام..انها الكتابة المفتوحة على لحظتها بكثير من التأني والوعي الخارق بمفهوم الشعر خصوصا فيما يتصل بمسألة الحداثة والتجديد والابتكار..
«النورس العاشق» ديوان اخر للعشق على طريقة عبد الرزاق الجملي ، هذا الذي يحتفل بالجنون كحالة ابداعية بعيدا عن الافتعال والتكلف..في قصيدة «عشق المجانين» (ص20) يقول الشاعر:
لماذا كلما التقينا نظر كلانا للاخر وضحكنا ربّما مجنون ينظر في مرآة وينتابه الضحك...
ان قصائد هذه المجموعة تشبه كثيرا ذات الشاعر الذي يأخذ القصيدة مأخذ جدّ وصدق قتلا للخراب ونحتا للجنون الجميل المبتكر والمحفوف بالعشق والسخرية من ملامح السقوط المدوي الذي يتهدد هذا الكائن الانساني.