كلّما قرأت قصائد سعدي يوسف استحضرت قولَ أحد الشعراء يستدرك على النّقّاد الذين ما فتئُوا يسعون إلى تعريف الشّعر: «إذا كان الشّعر طائرًا فجناحاهُ الصّورة والإيقاع، لكنّ الشّعر ليس طائرًا وإنّما هو الطّيرانُ»«الشّعر هو الطّيران» هذا هو المعنى الذي ترهصُ به كلّ قصائد سعدي يوسف وكلّ رموزه وأقنعته. فالشّعر، لدى سعدي يوسف، ما إنْ يُلامس الكائنات والأشياء حتّى يحوّلها إلى عناصر أثيريّة، رهيفة، شفّافةٍ تذوب في الفضاء، كما تذوب الغيوم. لكأنّ وظيفة الشّعر تتمثّل في إذكاء شوق الإنسان إلى بيته الأوّل: السّماء ،لكأنّ وظيفته تتمثّل في جعل الأشياء ترقّ وتشفّ وتخفّ حتّى تنفصل عن الأرض وترتفع بعيدا في الفضاء. لكن علينا أنْ نوضّح، منذ البدء، أنّ هذا العُروجَ لا ينطوي على أيّة دلالة غيبيّة أو دينيّة فشعرُ سعدي يوسف وإن التفتَ إلى الكتب السّماويّة ومتح منها بعض صوره ورموزه فإنّه ظلّ شعر الحاسّة والجارحة والجسد، أي شعر الحياة.
لعبارة «الطّيران» التي أستخدمها رديف آخر تردّد في بعض مقالات الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينُو وهذا الرديف هو «الخفّة» Lightness. والخفّة في نظر هذا الكاتب هي موضوع الشعريّة التي تسعى إلى تخليص الحياة من ثقل المادّة، والزّمن والغياب والموت.
فثمّة في نظره اتجاهان في الأدب متقابلان حاول أحدهما أن يجعل اللّغة بلا ثقل ترفّ فوق الأشياء مثل غيمة، أو ربّما مثل غُبار ناعمٍ، وثانيهما يحاول إعطاءَ اللّغة كثافة وثقلاً بحيث تبدو في كثافة الأشياء وثقلها.وكلّ من يقرأ قصائد سعدي يوسف يلحظ، ببديهة النّظر، أنّ لغته هي من الصّنف الأول، تلك اللّغة التي ترفّ فوق الأشياء مثل غيمة أو غُبار ناعم، لغة تصنع للأشياء والكائنات رياشًا وأجنحة ثمّ تطلقها في الفضاء.
اقرأ ما شئت من قصائد سعدي يوسف تجد حشدًا من الألفاظ تُحيل على معاني الانسياب والطيران والذّوبان بعيدًا في السّماء. ففي قصيدة «مجاز وسبعة أبواب » على سبيل المثال تتأسّس كل الصّور على العبارات التّالية: الغيم، اليمامة، الفراشة، النّحل.
هذه العباراتُ لا تُحيل على كائنات وأشياء رهيفة هشّة فحسب وإنّما تحيل أيضا على معنى الحركة والارتفاع والتّلاشي في ضباب الأقاصي.
لكأنّ لغة سعدي يوسف لا تسعى إلا إلى إذَابة صلابة الواقع والانتصار على خشونة المادّة، وتحويل كل شيء إلى أجنحة ورفيف أجنحة.
أجئت لتشتريخذ طيرا وحين تشبّ تأتيني بأوّل درهم من رزقك المكتوبيا ولدي أخذت الطيرثمّ جلست مرتبكا أقلّبهو وشوشني ابن حفصونكأنك يا بنيّ تريدأجنحةمعجم سعدي يوسف قد جمع من الكلمات ما يحيلُ على معاني الحركة، والصّع1ود، حتّى الأشياء الجامدة قد تحوّلت بفضل كيمياء الاستعارة إلى كائنات متحرّكة، إلى أسراب طيور.
فإذا تأمّلنا صورة الشاعر في قصائد سعدي وجدناها، هي أيضا ،صورة أثيريّة. يقول في قصيدة مجاز وسبعة أبوابو ها أنذا أعودأجرّ خلفي كل ما جرّته لي أعوامي العشرونعبر ممالك الدنياأعود خلقت آلاف الطيوركنت أريد أجنحة وطرتكأن اسمي الطائر الجوّاب فالشاعر لا يسكنُ الأرض، وإنما يسكنُ المدى يلفّعه الغمامُ.
لكأنّ مملكته ليست من هذا العالم وإنّما من عالم بعيد مستترٍ وراء الغيم لا يكادُ يظهر أو يبين أدخل مملكتيأدخل أبواب ضبابفَعَالَم سعدي يوسف ، كما صوّرته القصائد، عالمٌ سماويٌّ لا يمكن للمرء أن يبلغه إلاّ إذا حوّل يديه إلى جناحين كبيرين يطير بهما إلى السّماء في هذا العالم يتآخى المرءُ مع الكواكب والرّياح والغيوم حتّى ليصبحَ إذا أخذنا برموز «منطق الطير» عين الأشياء التي يراها.