شهدت عديد المؤسسات السجنية في المدة الأخيرة اضرابات جوع في صفوف المساجين الذين اختاروا هذه الوسيلة للاحتجاج، فلماذا يختار السجين اضراب الجوع؟ وأي تأثير لذلك على القضاء؟ وأي دور للنيابة العمومية في هذه المسألة؟ أسئلة حاولت «الشروق» الاجابة عنها باتصالها بأهل الاختصاص يلجأ السجين إلى اضراب الجوع عندما تفشل كل محاولاته في ايصال مطالبه كالاحتجاج على طول فترة ايقافه دون محاكمة أو للمطالبة بتحسين ظروف العيش. لكن أن يتحول اضراب الجوع للضغط على السلطة القضائية فتلك هي المشكلة.
اضراب الجوع : بين الشرعية واللاشرعية
يحاول المضربون عن الطعام الضغط على القضاء وعلى وزارة العدل بالتحديد لتحقيق مطالبهم مما يعيق أو يعرقل سير العمل خاصة في ظل ما يشهده الشارع من احتقان ومارافق القضاة من حملات تشويه إبان الثورة وهو أمر رفضه القضاة ونددوا بخطورته.
إذ اعتبرت رئيسة جمعية القضاة كلثوم كنّو ان كل ممارسة من شأنها الضغط على القضاة مرفوضة سواء كانت من السلطة التنفيذية أو الشارع عبر تنظيم وقفات احتجاجية أمام المحاكم بمناسبة النظر في قضايا.
أو كذلك عبر شنّ اضرابات جوع لبعض المظنون فيهم من الموقوفين وأضافت السيد كنّو أنه في المدة الأخيرة ارتفع عدد المضربين عن الطعام وقال إنه أمر غير عادي خاصة وأن هاته الوسيلة هي في الحقيقة تجعل الشخص المضرب عن الطعام معرضا إلى توعك صحي يمكن أن يصل به إلى حد الموت.
واعتبرت القاضية كنّو ان هذه الوسيلة يراد منها التعريف بالقضية وليس للضغط بها على القضاء لتغيير موقفه.
من جانبه اعتبر الأستاذ محمد الهادي العبيدي ان اضراب الجوع هو شكل من اشكال الاحتجاج القصوى وهو مرتبط بمشروعية السبب لكن إذا تحول إلى الضغط على القضاء يصبح فهما خاطئا للشكل الاحتجاجي وهو أمر مرفوض فيجب أن يستعمل اضراب الجوع من أجل حق مشروع.
إذ هناك مساجين حق عام دخلوا في اضراب جوع دون أن يكون لهم الحق في ذلك فيجب أن تكون الأسباب قوية كطول مدة الايقاف أو سوء المعاملة وسوء الاقامة داخل السجن حتى يتخذ السجين أو الموقوف قرار الاضراب عن الطعام.
لكن يبقى السؤال المطروح هنا من يتحمل تبعات اضرابات الجوع؟
النيابة العمومية في قفص الاتهام
حمّل الأستاذ العبيدي مسؤولية العواقب الوخيمة لاضراب الجوع إلى وزير العدل بصفته رئيس النيابة العمومية وأشار إلى حادثة موت الشابين السلفيين محمد البختي والبشير القلّي وقال إنهما خاضا اضراب جوع تجاوز ال 50 يوما وخلال تلك الفترة احتجت عائلاتهم واحتج لسان دفاعهم لكن مامن مجيب، وهذا لا ينفي عن الوزير مسؤولية هلاكهما الذي كان على علم بكل ما يجري داخل السجون لكنه لم يتعامل مع المسألة بكل جدية.
إذ من واجبه مراقبة السجون لكنه لم يأذن بفتح أبحاث في التجاوزات داخلها وأضاف الأستاذ العبيدي أنه وفي ظل اضرابات الجوع كان على النيابة العمومية القيام بمعاينة للسجون للوقوف على حقيقة الأمور، لكن طالما أنها تأتمر بإمرة وزير العدل لم تحرك ساكنا.
وقال الأستاذ العبيدي أنه يجب أن تكون لوزير العدل الشجاعة في الاعلان عن استقالته خاصة فيما تعلق بالتجاوزات داخل المؤسسات السجنية.
أين الاستقلالية؟
«أعتبر ان النيابة العمومية في وضعها الحالي غير مستقلة خلافا لما يصرح به من قبل وزارة العدل» هذا ما قالته رئيسة جمعية القضاة كلثوم كنّو، موضحة أن آخر دليل صارخ على عدم استقلالية جهاز النيابة العمومية ماتم بخصوص مابات يعرف بقضية سامي الفهري.
وأضافت أن عديد القضاة من النيابة العمومية أكدوا لها أنهم يعملون تحت ضغط خاصة وأن التعليمات التي يتلقونها لا تكون كتابية بل تعليمات شفاهية وتأتي عن طريق رؤساهم في العمل الذين يخضعون بدورهم لاشراف وزير العدل.
كما ان عدم استقلالية النيابة العمومية يتجسد من خلال السلطة الممنوحة لوزير العدل في اختيار أعضاء النيابة العمومية بصفة انفرادية مثلما حدث مؤخرا فيما يسمى بالحركة القضائية.
وأضافت أنه لا وجود لضمانات تجعل قضاة النيابة العمومية يعملون بإستقلالية فهم مثل زملائهم الجالسين يمكن نقلتهم بمجرد مذكرة عمل يصدرها وزير العدل متى شاء كما أنهم لا يمكنهم فتح بحث في أي شكاية أو إخلالات بالنظام العام إلا متى سمح لهم وزير العدل بذلك.
والدليل على ذلك ان هناك عددا كبيرا من الافعال المجرّمة والاخلالات اليومية لم تفتح النيابة العمومية في شأنها بحثا. وهذا ما يجعل المواطن التونسي إلى حدّ الساعة لا يثق في القضاء وفي تعامله مع الملفات. وساندها الأستاذ العبيدي مؤكدا أن النيابة العمومية غير مستقلة طبق القانون وهو ما يجعلها مرتبطة وظيفيا بوزير العدل.
القضاء وضغط الادارة؟
لا ينكر أحد من جناحي العدالة ان القضاة مازالوا فعلا يخشون سلطة الوزير وردود فعله.
في هذا السياق أوضحت السيدة كنّو أن ما يعيشه القضاة اليوم وبعد مرور سنتين من الثورة لا يختلف نوعيا عما كانوا عليه في العهد السابق بل في بعض الأحيان فإن وضعهم أصبح أكثر ترديا مما كانوا عليه إذ اضافة إلى الضغط الذي يمارسه عليهم الشارع وكذلك الاعلام فإن السلطة التنفيذية مازالت تواصل ضغطها وقد أضحى الأمر أكثر فداحة خاصة بعد أن تولى وزير العدل في نهاية شهر ماي 2012 اعفاء عدد من القضاة دون تمكينهم من حق الاطلاع على ملفاتهم ودون تمكينهم من حق الدفاع عن أنفسهم مما جعل بقية القضاة يعملون تحت طائلة الخوف من أن يشملهم قرار الاعفاء خاصة وان وزير العدل كان يلوح في عديد المناسبات بأنه سيواصل استعماله لآلية الاعفاء بدعوى تطهير القضاء من رموز الفساد والحال أنه في حقيقة الأمر فإن التطهير يجب أن يمرّ حتما بإصلاح المؤسسة وهو مالم تقم به السلطة التنفيذية، ولا السلطة السياسية التي ماطلت في سنّها لقانون الهيئة الوقتية التي ستحل محل المجلس الأعلى للقضاء لتترك يد وزير العدل مطلقة لإحكام قبضته على القضاء والقضاة خاصة في هذه المرحلة الانتقالية.
وأضافت أنه وفي غياب الحماية للقضاة وخشية على مصائرهم المهنية فإن عددا من القضاة يحاولون التقرب من وزير العدل وذلك باتخاذ مواقف قريبة من ميولاته رغبة منهم في البقاء في مراكز عملهم أو بغية نقلة أو مسؤولية، وهو أمر خطير على القضاء وعلى المتقاضي معا.
ماذا عن السلطة السياسية؟
تختلف السلطة السياسية من نظام إلى آخر ففي النظم الديمقراطية لا يمكن للسلطة السياسية أن تتدخل في شؤون القضاء.
حيث اعتبرت كلثوم كنّو ان كل سلطة سياسية تحاول بشكل أو بآخر أن تضع القضاء في صفها، لأن القضاء المستقل هو حامي الحقوق والحريات وبالتالي فإن تركه يعمل باستقلالية يجعله أن يحاسب من هم في السلطة وهذا ما يجبر السلطة السياسية على أن تضع حدودا للقضاء.
وقالت ان ما يعانيه القضاء اليوم خير دليل على ذلك خاصة في مسألة التتبع والاحالة وفتح الأبحاث إذ لا نلمس على حدّ قولها أي إرادة سياسية نحو جعل القضاء سلطة مستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية خلافا لما جاء بالبرامج الانتخابية للأحزاب السياسية ومن بينها الاحزاب الحاكمة.
ولا يوجد من يدافع بشكل واضح عن استقلالية القضاء بل يرفع هذا الشعار في بعض المناسبات فقط دون أن يمرّ إلى التكريس. الأستاذ العبيدي قال من جهته ان السلطة السياسية اليوم بعيدة عن الاستقلالية والشفافية فهي غير صادقة في وعودها الانتخابية وبقيت هي صاحبة القرار وتسمح لنفسها أن تخالف القانون باعتبار أن المؤسسات غير مستقلة وتسيطر عليها التعليمات على عكس النظم الديمقراطية التي يكون فيها القضاء فعلا سلطة مستقلة على غرار خضوع الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك للتحقيق ولا دخل لرئيس الدولة في المسألة.
أين الحل؟
أكدت رئيسة الجمعية كلثوم كنّو على ضرورة فصل النيابة العمومية عن وزارة العدل وقالت إنه مطلب ملحّ يجب تحقيقه في أقرب وقت لاستعادة المتقاضي ثقته في القضاء من جهة وليتمكن القضاة بصفة عامة من ممارسة عملهم دون أي ضغط ودون الخضوع لأية تعليمات مهما كان مصدرها ولا يطبقون إلا القانون. كما أنه على المجتمع المدني ان يتحرك بدوره لتحقيق ذلك المطلب كحق مشروع لضمان حقوقه.
فيما اعتبر الأستاذ العبيدي ان الحل الأمثل لفك الارتباط بين وزير العدل والنيابة العمومية هو حذف الفصل 23 من مجلة الاجراءات الجزائية حتى تكون النيابة العمومية ممثلة فعلا للمجتمع وتمارس دورها طبق القانون حتى تضع حدا للتجاوزات وتكون العين الساهرة على ضمان حقوق المواطنين بعيدا عن ضغط الادارة أو ضغط الشارع (الاضرابات الاحتجاجات الاعتصامات أمام المحاكم).
إذا يبقى المشكل المطروح في ظل عدم استقلالية القضاء وخضوع النيابة للتعليمات ان يتحول اضراب الجوع من حق مشروع للاحتجاج إلى وسيلة للضغط على القضاء والتأثير عليه.