«السلفية» مصطلح حديث النشأة في القاموس السياسي يعود اصطلاحا إلى مفهوم السلف الصالح, أولئك الصحابة والأئمة الأوائل الذين اتخذوا من التقوى والورع والتدين نهجا وسبيلا في الحياة وتحولت سيرتهم إلى أنموذج يحتذى في الذاكرة الجماعية. والسلفية خلف يريد الاقتداء بهؤلاء الرجال من السلف. إلا أن هذا المصطلح قد تبدل وحمل دلالات مستحدثة وطارئة, إنه ممتلئ بالمعاني الدينية والسياسية المعاصرة لطائفة تبحث عن موقع لها في الحراك السياسي وتستند إلى مرجعية إسلامية صارمة ... والسلفية عنوان لظاهرة جديدة في المشهد العربي والاسلامي لا تختص بالمجتمع المحلي في تونس وإنما هي ظاهرة تتعدى الدولة الوطنية القطرية في معناها الضيق, إنها ظاهرة متشابهة في بلدان عدة في المجال الاسلامي, توالدت في الثقافات المحلية في العالم العربي والاسلامي في مصر والباكستان والسعودية وتركيا ومالي والمغرب... وتونس ليست بمنأى عما يحدث في بلدان المجال الاسلامي التي تتوفر فيها أرضية متماثلة ومشتركة ثقافيا في التصورات الدينية والتاريخية. وقد تكون الأزمة الحضارية الراهنة والعميقة التي تعيشها شعوب هذا العالم الشرقي الممتد وتأخرها اقتصاديا ومعرفيا, سببا مباشرا في إنتاج فكر منغلق على ذاته ومتصلب المواقف وأحادي الحقيقة والتأويل.
الثقافة الاسلامية وطقوس التدين
وظاهرة السلفية تستند إلى موروث فقهي في أدبياتها, تلك التي تبحث عن معاودة تجربة الاسلام الأول عهد النبوة في المدينة ومكة. ويأخذها حنين إلى استعادة نماذج الصحابة في سيرتهم مثلما رسمها المخيال الاسلامي عبر حقب تاريخية، باعتبار أن التجربة الأولى في حدث التأسيس للمشروع الاسلامي النبوي كانت في تصورهم تجربة مثالية نقية وملهمة توفر حلولا ممكنة وأجوبة للأزمات التي يعيشها المسلم في الزمن الحاضر.
وتعير السلفية اهتماما خاصا بمظهر الانسان الخارجي من أجل خلق نوع من الانضباط الاجتماعي يقوم على سلوك أخلاقي صارم, يخضع لقيمة الورع والتقوى والزهد في الحياة الدنيا من خلال رفض الملابس الحديثة مثلا... وينعكس ذلك الايمان النفسي في أشكال الملبس وطرق المأكل والسلوك الاجتماعي والقيم الأخلاقية الفردية والجماعية وحتى في لغة التواصل اليومي, مثلما يتجلى في التصورات السياسية أيضا. تلك هي القيم التي يعيش بها المؤمن السلفي فيكون جاهزا نفسيا للتضحية بذاته حتى الموت جهادا في سبيل الله... وتتحول اللحية الطويلة المرسلة إلى علامة رامزة تختزل قيمة التدين والولاء إلى الله, وتؤكد الانتماء إلى «الجماعة المؤمنة الناجية تلك التي توصلت إلى إدراك المعنى الحقيقي للنص القرآني, وعرفت الطريق القويم لتأسيس دولة الله في الأرض» حسب اعتقادهم. فإرسال اللحية بهذا التقدير ولبس القميص وارتداء النقاب هو بحث محموم للتمايز عن الآخر وتمسك بمكونات الهوية الشخصية للمؤمن، بمعنى أن أتميز أنا عنك أنت, فتكون أنت غيري أنا, وأكون أنا غيرك أنت. هو احتجاج الذات الاسلامية ضد ذاتها المتأخرة حضاريا, وصراعها في مواجهة الآخر الأوروبي المسيحي الغالب والمتمدن.
ثم إن اختيار القميص أو النقاب أو العودة إلى ملابس تقليدية يعتقد المؤمن السلفي أنها تماثل تماما تلك الملابس التي كانت ترتديها الجماعة المؤمنة التي تحيط بالرسول زمن الوحي, يعد أحد تعبيرات السلفية الجديدة عن تلك الحالة الايمانية التي تتجلى في المظهر الخارجي للمسلم الفرد. فكأن الذائقة الثقافية المتنوعة قد صارت في عقل السلفي ذائقة موحدة وثابتة في أنواع الملبس لا تقبل التغير ولا تخضع لعملية التطور, ويصبح شكل اللباس حاملا لدلالات الإيمان الفردي العميق, ودالا على الانتماء إلى الفرقة الناجية التي تبحث عن الوحدة في اللباس. وهو بالتالي موقف رافض بالكلية للباس الغربي, فيكون القميص الفضفاض والعمامة العربية التقليدية والنقاب إعلانا ضمنيا لموقف معارض ومناوئ للحضارة الغربية الغازية تلك الحضارة التي تتآمر ضد المسلمين.
وقد ننتبه هنا إلى أن أشكال اللباس لم تكن متجانسة أبدا في كل الثقافات الانسانية وفي الثقافة الاسلامية كذلك عبر الحقب التاريخية. فلباس المناطق العربية الاولى لم يكن موحدا, وكانت كل جهة تحافظ على ميزات تخصها وتميزها وتتطور معها, تماما مثل ما نلاحظه في القرى التونسية التي تختص كل قرية منها بلباس تقليدي يختلف عن الجوار وإن وجدت مكونات متشابهة. ومن زاوية أخرى فإن التصورات الثقافية لأفانين الملبس وطرق الغذاء والمأكل للشعوب الجديدة التي تأسلمت أو تعربت في فارس أو تركيا أو الهند أو بلاد البربر, لم يقع إلغاؤها وإنما استنبتت واعتصرت في النسيج الأوسع للثقافة العربية الاسلامية, فأصبح لكل إقليم لباسه الخاص وعاداته في الغذاء التي تتطور بدورها وتتغير... فالمسلم في أرض الاندلس يختلف في ملبسه عن المسلم ساكن بلاد فارس أو أرض الهند, إضافة إلى تدخل العوامل التاريخية في تحويل الذائقة الثقافية وإثرائها.
والمؤمن السلفي يعيش حالة إيمانية وجودية عميقة, تقوم على ترويض النفس دينيا بمعنى أن يتعالى عامل الإيمان داخله في أشكال العبادات المختلفة : صلاة, وصوما, وترتيلا للقرآن... إنه يسعى إلى التقرب من الله الواحد الأحد في ملكوته. وهي تجربة روحانية فردية ذات قيم سامية. وهو يعتقد في تجربة الإيمان الروحي أنه قد توصل إلى كشف حقيقة الغيب, لأنه يؤمن بإسلام أحادي المعنى أو هو يتمسك بالتأويل الحرفي للنص المقدس... هو إيمان لا يذهب بعيدا في تأويل دلالات القرآن, ولا يعتقد بفكرة حق الاختلاف, ويكتفي بحقيقة واحدة للمعنى الديني, ولا يرى أن النص المقدس قابل لتأويلات متعددة لإدراك مقاصد الكلام الالهي.
الأصول التاريخية للإسلام المتصلب
ونحن نذهب إلى أن السلفية ليست ظاهرة حديثة النشأة بل هي ظاهرة تاريخية قديمة لها جذورها في بدايات الاسلام. ونكاد نجزم أن السلفية تعود إلى الأصول الأولى التي أنتجت فرقة «الخوارج» قبل أن تتأصل وتتنوع إلى فرق «نجدات وأزارقة وإباضية وصفرية...». وكثير من المتفقهين الجدد لم يقرؤوا بعمق تاريخ الخوارج, لذلك اعتبر البعض أن إلصاق تسمية الخوارج بالخصوم الدينيين كان يعد من باب الشتيمة والقدح, وهذا خاطئ لجهة أن الخوارج كانت فرقة ثورية وسياسية ذات إرث نضالي طويل ولها قول في مسألة الإمامة ونظام الحكم. نستقرئ أخبارها في المدونات التاريخية للطبري والمسعودي والشهرستاني وغيرهم...
و«الخوارج» في بداية تشكلها كانت مجموعة أفراد من المخلصين للدين الجديد استمسكوا بقداسة النص القرآني, وعارضوا سياسة المهادنة التي توخاها «علي بن أبي طالب» في صراعه ضد «معاوية بن أبي سفيان» خاصة في حادثة التحكيم. وطالبوه بأن يتخذ موقفا متشددا وحاسما تجاه معاوية ثم خرجوا عليه حين قبل الهدنة في موقعة «صفين» وحادثة رفع المصاحف على الرماح عودة منهم الى الله.
وتطور الفكر الخارجي في ما بعد لينتهي إلى إنتاج تصور لنظام الحكم الاسلامي يتأسس على قاعدة سياسية مفادها أنه «لا حكم إلا لله», ورأت أن شخص أمير المؤمنين لا يجب أن يكون سليل «آل البيت» مثلما هو الحال في اعتقادات الفكر الشيعي... وليس ضروريا أن يكون حاكم المسلمين شريفا منتسبا إلى قريش مثلما ذهب إلى ذلك الفكر السني الأموي والعباسي, وتمسكوا بالتجربة الأولى للنبي وأصحابه, ورأوا أن المعيار المحدد لأهلية الحاكم هو توفر شرط التقوى حتى وإن كان هذا الحاكم عبدا فقيرا على رأسه زبيبة... لقد حمل الخوارج في مغامرتهم نفسا ثوريا محاربا ومناضلا ومخلصا للعقيدة التي آمنوا بها, إلا أنهم لم يفهموا جيدا مقتضيات الواقع السياسي والاجتماعي الذي ينتمون إليه فانكسر مذهبهم وتوقف تطوره حين اصطدموا بإرادة القوة التي تحتكرها الدولة.
والفكر الخارجي في بداياته نشأ بين فئة «القراء» من حفظة القرآن حسب اصطلاح المفكر «هشام جعيط», أولئك القراء الذين التزموا بتعاليم القرآن في صلابة وتشدد, وتشبثوا بقيمة التقوى في إيمان صوفي غير أنه محارب. وكانوا يعيشون قيمة الجهاد في سبيل نشر كلمة الله بروحانية مدهشة. هؤلاء قاتلوا ضد الدولة الساسانية وضد الدولة البيزنطية في كل المعارك التاريخية الكبرى بدافع العقيدة والايمان في اختلاف مع سائر المقاتلة من الجند الذين حاربوا لأجل الغنيمة والكسب الاقتصادي. وقد حاربت طائفة «القراء» في صفوف «علي بن أبي طالب» ضد عودة الغلبة والسيطرة لبني أمية أو البرجوازية القرشية الثرية والمتسيسة التي يمثلها « معاوية بن أبي سفيان وولده يزيد».
وتطور الفكر الخارجي إلى مناكفة الملك العضوض المستبد للأمويين. وسلكوا فيه نهجا عنيفا يقوم على جواز محاربة السلطان المسلم إذا خرج عن شرع الله. وقارعوا بالسلاح طيلة قرون في مواجهة الدولة العباسية أيضا. كان نهجا مكافحا يؤمن بالعنف الثوري لتغيير أنظمة الحكم القائمة. إلا أنهم كانوا مجرد مجموعات صغيرة اصطدمت دائما بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والديني لدولة قوية وممتدة. هنا لجأوا إلى الأطراف بعيدا عن المركز والمصطلح للمفكر «سمير أمين». المركز في «دمشق» أو «بغداد» أو القيروان أو مصر... وأسسوا إمارات ودويلات بعيدة وضعيفة التأثير في اليمن وعمان والصحراء الكبرى للمغرب العربي لذلك نرى بقايا من الخوارج الإباضيين في تونس والجزائر... كانت أطرافا جغرافية بعيدة عن مركز الحكم في مناطق لا تتمتع بقيمة استراتيجية بالنسبة إلى الدولة القائمة. عاشوا هناك منغلقين سياسيا عن العالم الاسلامي الذي اعتبرهم خارجين عن اجماع الأمة, وحملت لفظة الخوارج دلالات سلبية خاطئة في الضمير الاسلامي تسمهم بالانحراف الديني والتمرد على ولي الأمر.
ونحن نعتقد بوجود شبه تاريخي بين أدبيات السلفية الحديثة وبين الموروث الفكري للخوارج الاوائل. هو شبه في الاسلام المتصلب الذي نقرأه في أدبيات التنظيمات الجهادية المعاصرة كتنظيم القاعدة مثلا، أو أدبيات السلفية التي انقسمت إلى الجهادية أو السلفية العلمية حين تواجه مجتمعاتها من الداخل في رفض مطلق للسائد ثقافيا, ورغبة منها في تغيير نمط الحياة السياسية والاجتماعية أو في وقوفها في وجه قوى الكفر حسب اعتقادها في مالي أو الصومال أو جبال أفغانستان أو في مشاركتها الحاسمة في الحرب الاهلية في سوريا...؟