أمس كان يوما استثنائيا في حياة كل التونسيين... يوم عادت فيه الذاكرة الى سنتنين خلت... يوم 14 جانفي 2011 حيث كانت الجماهير الهادرة التي احتضنها الشارع الرئيسي للعاصمة... لتعلن بصوت عال إنه عهد الحرية ودحر الاستبداد والدكتاتورية. ... اليوم وبعد سنتين على هذه الثورة الشعبية العارمة، أسئلة عديدة تطفو على السطح لعلّ أبرزها: ماذا تغيّر في البلاد؟ وكيف تبدو لنا البلاد بعد عامين من رفع عبارة «ديڤاج» في وجه الاستبداد.
مثقفون ومبدعون وناشطون في الحقل الفكري تحدثوا ل «الشروق» وهذه الحصيلة.
عربة مشحونة بالحريات المستوردة
عندما طرحنا هذا السؤال على الكاتب عضو جمعية الدفاع عن اللغة العربية الاستاذ البشير السالمي أطرق كثيرا قبل أن يشير الى أن أول ما يتبادر للذهن هو سؤال منطقي ومخادع حول ما إذا عرفت أوضاعنا المعيشية والاجتماعية والثقافية تغييرا يذكر؟ وهل نحن اليوم افضل حالا وأوفر كرامة مما كنا عليه؟
يخلص الاستاذ الجامعي البشير السالمي الى أن أبرز مظاهر التغيير... هذه الطفرة من الحرية شبه المطلقة وكأننا ننتقم بها من سنوات الكبت واللجم... لكن والكلام للاستاذ البشير السالمي أسرفنا على أنفسنا في هذه الحرية واندفعنا نحوها في تسابق وتنافس بلغ أقصى مداه في خمسة ميادين على الأقل.
1 حرية التعبير السياسي في مختلف وسائل الاعلام... في سابقة أولى على مستوى تونس والعالم العربي. من ذلك عرض مشاهد مسرحية هزلية وصور كاريكاتورية أبطالهم رموز الدولة وأقطابها. فضلا عن اختراق هذه الحرية للمعطيات الشخصية لأي كان والنبش في حياته المهنية والعائلية واتهامه حقا أو باطلا بالمنكر والمحظور.
2 حرية الاحتجاج الاجتماعي والاضرابات والاعتصامات دون إذن أو ترخيص مما أدى الى غلق للمعامل والمصانع والتسريح العشوائي للعاملين بها وهروب لأصحاب رأس المال.
3 حرية تأسيس الأحزاب والجمعيات والرابطات وتربع على رأس هذه الهياكل من هب ودبّ ومن لا يفهم «كوعه من بوعه» على حدّ تعبير الاستاذ الباجي قايد السبسي.
4 حرية الاعتداء اليومي على لغة البلاد والخلط المقرف والمقزز بين لغتنا العربية ومفردات وعبارات فرنسية في القنوات الاذاعية والتلفزيونية.
5 حرية الانتصاب الفوضوي وحرية التسعير.
وخلص الأستاذ البشير السالمي الى أن التونسي العادي لا يرى في هذه العاصفة الجديدة من الحريات إلا ريحا من رياح الفوضي غير الخلاّقة ولم تزد الفرقاء السياسيين الجدد وما أكثرهم إلا إمعانا في الكيد لبعضهم وإلا تهافتا على الاستقواء بالخارج ليختم قائلا «كم وددنا أن يهدينا البوعزيزي بعد عامين من الانتفاضة عربة مشحونة بالخضر والفواكه الطازجة ولا بالحريات الملغّمة والمستوردة».
انعدام رؤية ثقافية واضحة
من جهته اعترف الكاتب والباحث أحمد الحمروني أن الحياة الثقافية قبل الثورة كانت أكثر نشاطا بالمؤسسات والتظاهرات والتشريعات.. وكان المثقفون الأحرار كالمغضوب عليهم منعوتين بتهمة المعارضة مهمشين كالأحياء الشعبية وكانت آمال الجميع كبيرة على الثورة وفي المجال الثقافي خاصة بقدر نضالات المثقفين المخلصين والسبّاقين الي دقّ ناقوس الخطر،
لكنه والكلام للكاتب والباحث أحمد الحمروني هؤلاء هم أول من تنكّر لهم الحزب الحاكم الجديد لأن له ثقافة أخرى تقتضي تحويل نصف ميزانية وزارة الثقافة الى وزارة الشؤون الدينية دعما لبرنامج أصولي يتمّ نعمته على المجتمع المدني بالجهاد والدعوة، ألسنا في حاجة الى فقهاء يصحّحون لنا إسلامنا بدل مفكّرين يزيغون بنا عن أسلافنا.
ويرى أحمد الحمروني أنه بهذا المنطق دخلنا السنوات العجاف وبدأنا نتعوّد على الانقطاع الثقافي والعمق الثقافي كما تعودنا على انقطاع الحليب وارتفاع الأسعار وتحول ربيعنا الى شتاء متجمّد أو الى صيف مشتعل.
سنقول مرة أخرى «هرمنا» وهذه المرة من الثورة التي أكلتنا بعد أن أكلت حقوق الجرحى والشهداء فأي ثقافة مع انعدام الأمن؟ وأي إبداع مع تقلّص حرية التعبير؟ ويرى أننا بعد عامين من ثورة 14 جانفي 2011 في حاجة الى ثورة ثانية وثورة ثقافية توضّح الرؤية وترسم خريطة طريق لمستقبل أفضل تتحقق فيه أحلام الجميع في الحرية والعدالة والشغل والكرامة بالكفاءات الوطنية وبأقل عدد من الوزراء والكتاب والمستشارين والنواب...
ان المماطلة في الأجندا السياسية وفي كتابة الدستور الذي لم نعد ننتظر منه خيرا جريمة في حق البلاد والعباد وإن كانت فيها مصلحة لأشخاص يودون لها الدوام على حساب المعذبين في الأرض إلى حدّ الارتهان وفقدان القرار.
ويتساءل أحمد الحمروني هل نسمي لخبطات الراب موسيقى وهستيريات الممثل الواحد مسرحا وحكاية القناصة رواية وركوب الثورة فروسيّة؟ ومن سيقرأ الآن بعد سنتين المائة وخمسين كتابا المتجددة للثورة وغير السخافة أي ثقافة يسمح لها بالرواج بعد مطاردة السينمائيين والفنانين التشكيليين والاعلاميين واهدار دم المفكرين والمتهمين بالعلمانية والشيوعية وحتى بالديمقراطية كما قال غير واحد من الخطباء السلفيين والوهابيين المقتدين بكبيرهم رضي الله عنه؟
ستكون ثقافة العنف بدل التسامح والانغلاق بدل الانفتاح والتعصب بدل الحوار ستكون ثقافة ديكتاتورية جديدة تجرّنا إلى الوراء إلى القرون الظلماء.
مدونة لغوية جديدة
أبرز الدكتور أحمد الطويلي أن ما عاشته تونس يعدّ حدثا تاريخيا فقد دخلت البلاد عصرا جديدا هو عصر الانتصار على الظلم والقهر والفساد وأصبحت ملهمة للشعوب... فقد انتشرت بقوة أفكار الكرامة والعدالة والمحبة والحرية مما فتح آفاقا جديدة لتونس... لقد أصبحت للتونسيين حسب الدكتور أحمد الطويلي مدونة لغوية جديدة تقطع مع الحقد والانتقام والعصبية حيث لم يعد هناك مجال ايضا للحقد والعصبية.
من هذا المنطلق بدأ الدكتور احمد الطويلي متفائلا بمستقبل تونس بعد عامين من الثورة وبأن القادم أفضل خاصة بعد اجراء الانتخابات مبرزا ان الأولويات في المرحلة القادمة تكمن في توفير العمل لجميع أفراد الشعب وتعميم المستشفيات والمستوصفات في كامل تراب البلاد وارساء البنى التحتية من طرقات وجسور في كل مكان وتشجيع المواهب في الفنون في الأدب والرسم والمسرح والسينما وضمان الحرية للمبدعين بمختلف مشاربهم والاعلام.
تهميش واضح للثقافة
لئن عبّر السينمائي المختار العجيمي عن التفاؤل بمستقبل تونس بعد عامين من الثورة فإنه في ذات الوقت أشار الى ان حرية التعبير التي أصبحنا نتمتع بها فقدت سياقها وخرجت عن نطاقها السوي في ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية صعبة.
وأبرز السينمائي المختار العجيمي أهمية الثقافة في حياة الشعوب، لكن في تونس حدث العكس حيث طغى السياسي على الثقافي والحصيلة قرار النقص لميزانية الثقافة زادها غياب واضح لمبادرات شجاعة ومسؤولة تنتصر للإبداع الراقي الذي يبني للحياة الكريمة.
وقال المختار العجيمي إنه لابد من انقاذ البلاد بالثقافة لمختلف فروعها ومشاربها... الثقافة هي العمود الفقري فيكفي ما تعانيه من تهميش وختم السينمائي المختار العجيمي بمقولة للزعيم الخالد الحبيب بورقيبة للعقيد الراحل معمر القذافي «أفضل أن يثور عليك شعب مثقف من أن يثور عليك شعب جاهل...»
غياب للرؤية وعدم التشبّع بمعاني الدولة
أبرز الاستاذ المحاضر والنقابي رجل الثقافة نزار بن صالح (نجل الشاعر الكبير الراحل الميداني بن صالح) تحفّظه، بل نقده الصريح لما تعيشه تونس اليوم بعد سنتين من الثورة فالشعب التونسي يقول الاستاذ نزار بن صالح عاش منذ سنتين أحلاما كبرى جعلت الآفاق تبدو رحبة والبعيد قريبا والنقلة التاريخية نحو فضاءات الحرية والديمقراطية ممكنة... لكن ما يلاحظ
والكلام للأستاذ المحاضر نزار بن صالح أن تونس تعيش أزمة على المستوى السياسي وانسدادا في الآفاق السياسية وتبرز هذه الأزمة حسب رأيه في شكل عجز حكومي على تحقيق أدنى أهداف الثورة أو حتى على طرح الرؤى المستقبلية المؤدية إلى تحقيق هذه الأهداف وكما أن تونس تعيش اليوم تمزقا اجتماعيا يزداد عمقا وحدة وهو في الحقيقة انعكاس داخل المجتمع للتجاذبات السياسية ولتغييب روح الوفاق.
وهو شيء خطير كما لا يخفى على كل ملاحظ تفاقم ظاهرة المليشيات واستعمال العنف لتحقيق أهداف سياسية والمقصود هنا مليشيات ما يسمى بروابط حماية الثورة التي ثبت تورطها في أحداث عنف عديدة... والأخطر هنا هو الابتذال الذي قامت به هذه المليشيات لعناوين كبرى كالتطهير ومحاربة الفساد وقد وصل تطاول هذه المليشيات المحمية والمغطاة سياسيا من الحزب الحاكم وحلفائه إلى حد الاعتداء على الاتحاد العام التونسي للشغل بدعوى التطهير.
ويرى الأستاذ المحاضر نزار بن صالح أن هذه الأزمة الشاملة ليست سوى انعكاسا للأزمة الهيكلية للطبقة السياسية الحاكمة ولعدم أهليتها للحكم والتصرف في الشأن العام والتي ترسل صورة بشعة عن السياسة والسياسيين يمكن اختزالها في غياب الرؤية وعدم التشبع بمعاني الدولة وانعدام الكفاءة وللتغطية على ذلك يزج بالمجتمع التونسي في مشاحنات ايديولوجية حول مشاكل زائقة..
وقال ان ما تعيشه تونس من مشاحنات وتدافع اجتماعي والغلبة والتعالي والدعوة إلى تجاوز القوانين بدعوى القطع مع الماضي يمكن تلخيصه في محاولة الترويكا الحاكمة لتحويل وجهة الثورة والعبث بعملية الانتقال الديمقراطي لتحقيق ديمومة السلطة للفريق الحاكم ولكن كان الأستاذ نزار بن صالح حاسما في هذه المسألة من خلال التأكيد إذا كانت الحكومة هي أبرز عنوان للثورة المضادة فإن الشعب الذي ثار بمختلف قواه الاجتماعية والمدنية والسياسية سيحمي ما أنجزه ولن يسمح بإعادة انتاج استبداد جديد مهما كان لونه أو مبرراته.