مازالت مدن ولاية سليانة تستقطب الالاف من سكان المناطق النائية الذين اضطروا للنزوح جراء صعوبة الحياة المعيشية بهذه الربوع والعزلة التي يعيشها سكان الأرياف والتي اضطرتهم إلى مغادرة مسقط الرأس. ان من اكبر المشكلات التي كانت ولازالت تؤرق متساكني الارياف مشاكل التزود بالماء الصالح للشراب، والنور الكهربائي، الذي مازال حلما يراودهم، بالرغم من اطلالة ثورة الكرامة، فشرابهم من الابار التي لا تتوفر فيها ابسط الشروط الصحية، ونورهم عبر القناديل والوسائل البدائية، الشيء الذي خلق فجوة كبيرة بين تلاميذ الارياف، والمناطق الحضرية، مهددا مستقبلهم الدراسي فانتشرت الامية بأغلب هذه المناطق جراء الغيابات المتكررة، وخاصة عند التقلبات المناخية ، وما ينجر عن ذلك من صعوبة بسبب رداءة المسالك الفلاحية التي تنقطع لعدة اسابيع وتنقطع معها كل وسيلة اتصال بالخارج وتغيب كل معلومة، ويصبح متساكنو هذه المناطق في عزلة تامة. وإزاء هذه الوضعية المأساوية التي لازمت هذه الفئة السكانية، هناك من خير الرحيل وبالتالي النزوح إلى اقرب مدينة، عله يجد بها ضالته، وينقذ ما تبقى من مشوار دراسي لابنائه، لانه لا يحتمل المزيد من الشقاء والعذاب من جراء انعدام المرافق الاساسية ومنهم من شده الحنين إلى الارض التي تربى بين تربتها ولامس أديمها، ضاربا عرض الحائط مغريات المدينة وعصرنتها. لكن بين هذا وذاك تبقى أحقية هذه الفئة المعزولة في التطور، كشرط اساسي لا جدال فيه من اجل المسك بأيديهم لحثهم عن الاستقرار بهذه الربوع.
أصبحت ظاهرة النزوح نحو المناطق الحضرية، في السنوات الاخيرة خاصة، متفشية بشكل يدعو للريبة والدهشة، وان كانت لدى البعض ممن اختاروا هذا المنحى تبريراتهم المعقولة، ومسبباتهم، التي لا يستطيع عاقلان القدح فيها، مثل تفشي البطالة، وانعدام المرافق الحيوية والاساسية بهذه المناطق النائية، مثل الماء الصالح للشراب، والنور الكهربائي، دون نسيان الحالة المزرية التي عليها جل ان لم اقل كل المسالك الفلاحية، والتي كثيرا ما كانت سدا امام تواصلهم مع العالم الاخر، فإن البعض الاخر يرون عكس ذلك، بأن السكنى بهذه الربوع وان كان يحدوها التهميش والاقصاء، من المرافق الضرورية للحياة، الا انها في المقابل تتسم بقلة التكلفة المعيشية، مقارنة مع ما تشهده البلاد من صعوبة في الحياة المعيشية، دون نسيان الحنين الكبير بتشبثهم بالارض الطيبة التي ترعرعوا بها وعرفوا تفاصيل تربتها.
تداعيات النزوح
أما من ناحية الجانب البيئي، فلذلك تداعيات ايجابية كثيرة وخاصة ذلك المتعلق بمساهمة هؤلاء المتساكنين حتى وان كانوا يعدون على أصابع اليد الواحدة، فبتواجدهم بهذه المناطق الجبلية النائية، سيساهمون بشكل او بآخر في المحافظة على الغابات وصيانتها من الحرائق، وهذا السبب كفيل لوحده بشدهم للمكوث بمناطقهم، دون نسيان الجانب الاخر والمتمثل في الجانب الاقتصادي، إذ بتواجد هذه الفئة بمسقط رأسهم سيساهمون في دفع حركة التنمية بالجهة، من خلال تربية الماشية وزراعة الخضروات. أما اقتصاديا، فإن الحد من هذه الظاهرة الخطيرة التي ألقت بظلالها في السنوات الاخيرة، سيحول حتما من تفاقم البطالة بالمدن، وما ينجر عن ذلك من تبعات لا تحمد عقباها من خلال تفشي ظاهرة السرقة، والبراكاجات، الشيء الذي سيعود سلبا على المناطق الحضرية.
لذلك فإن أحسن طريقة للحد من الظاهرة هو تدخل الحكومة لاعادة النظر في الاستراتيجية التي تم العمل بها بالنظام السابق بهذه المناطق النائية والتي حرمتهم من ابسط حقوقهم، في العيش بحياة تليق بكرامة الانسان الذي يعيش بمطلع الالفية الثالثة، وذلك من خلال توفير ابسط الضروريات للاستقرار بهذه المناطق المعزولة، مثل مد شبكة النور الكهربائي، والماء الصالح للشراب، وتهيئة وتعبيد المسالك الفلاحية المهترئة، كل هذه الخدمات ستكون حتما سببا شافيا ومقنعا، للعيش بهذه الربوع وفك عزلتهم، ومن دون التفكير في سياسة الهجرة للمدن حتى مجرد التفكير.