يعد البنك الدولي و الصندوق الدولي و منظمة التجارة العالمية المثلث المنظم لشؤون الاقتصاد العالمي. إلا أن البنك و الصندوق الدوليين اكتسبا سمعة سيئة من خلال تجارب برامج الاصلاح الاقتصادي التي فرضت قصرا على كثير من البلدان النامية. و كان لتطبيق أجندات البنك و الصندوق الدوليين أثارا اجتماعية و سلبية على المجتمعات فضلا على التشوهات الاقتصادية الهيكلية التي قضت على الصناعات المحلية. فبعد الأزمة المالية 2008 تعرضت هذه المؤسسات المالية لانتقادات كثيرة و هو ما دعاها الى تغيير خطابها تجاه الدول المستفيدة من القروض و البرامج المقدمة منها. فرغم التعهدات لبلدان الثورات العربية بعدم فرض شروط فإن أساليب صندوق النقد الدولي اتخذت شكلا جديدا بالنسبة لتونس فسوف يقتصر دوره الى تقديم المشورة الفنية عبر مكتب بالبنك المركزي و بذلك يكون قد فرض شروطه بشكل غير مباشر. فتونس تعاني منذ 2011 أزمة تمويلية تتمثل في ارتفاع معدلات العجز بالموازنة العامة و ارتفاع معدلات الدين العام وأعباء خدمته و العجز بميزان المدفوعات و زيادة مخصصات الدعم. فمن مسلمات التعامل من قبل صندوق النقد الدولي مع هذه الحالة ان يفرض تقليص كل هذه المعدلات السلبية و دون مراعاة ماينتج عن ذلك من أضرار اجتماعية و ذلك في فترة وجيزة من الصعب تحملها في بلد مثل تونس. فهذا الوضع فرض عديد التحديات على الصعيد المالي أهمها:
حالة عدم الاستقرار السياسي و الأمني و الانفلات الأمني التي من شأنها أن تضعف موقف الدولة و الحكومة في المؤسسات الدولية المالية نظرا لما تسفر عنه هذه الحالة من نتائج سلبية بخصوص آداء المؤشرات الاقتصادية الكلية و تراجع التصنيف الائتماني لدى المؤسسات الدولية.
حالة ضبابية على الساحة المالية و السياسية حيث بعد تشكيل الحكومة المنبثقة على اثر انتخابات 23 أكتوبر فهذه الحكومة لم تستطع أن تترجم وعودها الى برامج ناجحة و لم تستطع أن تدير بشكل نزيه و شفاف دواليب الاقتصاد الوطني فظهرت حكومة الثورة بشكل العاجز و الفاشل أمام الشعب و هذا ما أدى الى استقالة رئيس الحكومة. هذه الحكومة لم تستطع أن تكيف منظومة ادارية و نقابية ترعرعت على ممارسات النظام السابق لخدمة أهداف الثورة فكثير من هؤلاء يدينون بالولاء للنظام الدكتاتوري بل منهم من كان يسعى الى توريط الحكومة في مشاكل اقتصادية و اجتماعية.
عدم مصارحة الشعب بالأوضاع الاقتصادية و المالية الحقيقية و حجم تركة المشاكل الاقتصادية التي ورثتها الحكومة من النظام الدكتاتوري رغم أن الطموحات الاقتصادية الثورية كانت عالية السقف في ظل عجز مالي متفاقم و متواصل.
تبني حزب النهضة برنامج اقتصادي و اجتماعي يغازل طموحات الشعب دون أن تأخذ بعين الاعتبار التحديات المالية و الاقتصادية المحلية و حالة التوجس في الخارج من طبيعة الحكم و مدى تبني هذه البرامج لنماذج تنموية تتفق مع التوجهات الليبرالية للدول الغربية.
من الواضح اليوم و في ظل تفاقم العجز بالموازنة العمومية لن يكون من السهل بالنسبة للحكومة التونسية الولوج الى الاقتراض من الخارج الا بعد الوصول الى تفاهمات مع المؤسسات المالية الدولية و مانشهده اليوم من مفاوضات مع البنك الدولي و الصندوق الدولي و مطالبهم المجحفة لدليل على أن نظرة هذه المؤسسات لدول الربيع العربي لم تتغير رغم ما أعلن سابقا من أن هذه المؤسسات لن تطلب من بلدان الثورات العربية تنفيذ أو التقيد ببرامج و شروط. هذا التمشي في اتجاه المؤسسات المالية الدولية شر لابد منه خاصة بعد تضاؤل فرص الاقتراض الاقليمية و خاصة العربية و التي من الواضح أنها تخضع في حد ذاتها الى ضغوط غربية و مانسبة الفائدة بالنسبة للقرض القطري ب 3.5 بالمائة إلا دليل على أن المراهنة على الوعود العربية بتقديم مساعدات مالية لن تتحقق بل إن تأخرها أدى الى ضعف الموقف المالي أمام المؤسسات الدولية.
إن التحديات المذكورة آنفا تمثل عقبات أمام الحلول لأزمة تمويل الاقتصاد الوطني و يمكن تجاوزها و لو على مراحل و ذلك بايجاد حلول موضوعية و عملية و برأينا يمكن أن تكون على النحو التالي:
إيجاد حالة توافق وطني بين الحكومة و جميع مكونات الطيف السياسي يعتمد على المصارحة و المكاشفة و الشفافية و مصارحة الشعب بالقدرات المالية للدولة و حدودها و الأدوات المتاحة و الممكنة و سلبياتها. التعهد ببناء نماذج تنموية للجهات الداخلية هدفها التنمية الاقتصادية لهذه الجهات و القضاء على الفقر و مصارحة مواطني هذه الجهات على العوائق التي تحول دون تنمية جهاتهم و تقديم خطط تخدم مصالحهم و تتبنى طموحاتهم. ضرورة ترشيد الانفاق الحكومي بشكل لا يؤدي الى آثار سلبية على حياة المواطنين محدودي الدخل و تحديد برنامج متدرج في ما يتعلق بخفض نفقات صندوق الدعم. -إعادة هيكلة منظومة النفقات العمومية و العمل على الرفع من الايرادات الجبائية و مقاومة التهريب و المضاربة الغير الشريفة و الاحتكار.
-ضرورة توظيف الوسائل المالية و البنكية الداخلية و توجيهها خدمة للحاجيات التنموية و تشجيع القطاع الخاص و تفعيل دوره في عملية التنمية الاقتصادية في الجهات, كما يتوجب توجيه التمويل الخارجي الى المشاريع الاستثمارية المتعلقة بالبنية التحتية و عدم توجيهه إلى الانفاق الجاري.
-مواجهة الفساد و الرشوة بشكل جدي و عملي وذلك باعتماد قوانين صارمة في هذا المجال خاصة في الادارة و في المؤسسات العمومية فمن شأن مواجهة الفساد أن يحسن من أداء النفقات العمومية و ينمي جودة الخدمات المسداة للمواطنين.
-العمل على جلب الاستثمارات الأجنبية المباشرة و عودة الاستثمارات الوطنية الموجودة خارج البلاد بعد الثورة. -تنويع المعاملات التجارية و الاقتصادية بما يخلق مصالح متعددة في المحيط الدولي.
يجب أن لا ننسى أن الثورات العربية قامت بسبب ضغوط اقتصادية و اجتماعية كما يجب أن نشخص أن ما يمر به اقتصادنا هي ظروف استثنائية و أنه بقدر صمودنا خلال هذه الظروف الاستثنائية و العمل من خلال رؤية تنموية سوف نحصل على ظروف أفضل في المستقبل و كذلك في تعاملنا مع المؤسسات الدولية. فبقدر ما تحكم الحكومة ترتيب الأوضاع الداخلية اقتصاديا و أمنيا بقدر ما يكون لها هامش مناورة في مواجهة مؤسسات التمويل الدولية. أما إذا أبقت الحالة على ماهي عليه فإننا سوف نواجه مستقبلا في ظل التبعية لسياسات هذه المنظمات الدولية. فالخلاصة الواضحة التي بينتها لنا الثورات العربية أن هذه الثورات أمكنت للشعوب من الاطاحة بالدكتاتورية لكن لايمكن الاطاحة بالتبعية الاقتصادية. لكن في المقابل يجب على المؤسسات المالية الدولية إذا ما كانت ترغب في تقديم دعم حقيقي للثورة التونسية أن تستلهم من سياساتها الفاشلة سابقا و أن تقدم دعما حقيقيا وأن تتخلى عن فرض شروط اقتصادية و سياسية من شأنها أن تؤجج الأوضاع الاجتماعية . فاليوم المطلوب من هذه المؤسسات الدولية بأن تقوم بدور حيادي و تقدم دعمها لتونس بشكل يؤدي حتما الى تنمية اقتصادية و نمو متوازن و عادل.
إن حالة عدم الاستقرار و الضبابية في المشهد السياسي و الأمني و الاقتصادي التي تمر بها البلاد اليوم و عدم تحديد خارطة طريق سياسية واضحة تحدد فيها تواريخ الانتهاء من كتابة الدستور و الانتخابات القادمة تعد أدوات ضغط بين أيدي المؤسسات الدولية لتمرير أجندتها و مطالبها و شروطها و هذا ما لم تأخذه في الاعتبار حكومة حمادي الجبالي المستقيلة التي تفاوض اليوم هذه المؤسسات الدولية. فإدارة الدولة يقتضي ايجاد الروابط بين ماهو سياسي و اقتصادي و اجتماعي و أمني و دولي في اتخاذ القرارات و تطبيقها و تحديد السياسات الاقتصادية و الاجتماعية. فالمصلحة العليا للدولة و مستقبلها رهين اتخاذ قرارات حاسمة و جريئة تطمئن التونسيين على مستقبلهم و مستقبل أبنائهم و تعطي إشارة واضحة للعالم الخارجي أن هذه الدولة و شعبها و نخبها قادرون على المحافظة على مصالح شركائهم و قادرون على ترجمة أهدافهم الى مكاسب و المحافظة عليها.
الأستاذ الدكتور محمد الذيبي (أمين عام حزب العريضة الشعبية تيار الاصلاح الوطني)