نيويورك من مبعوثتنا الخاصة فاطمة بن عبد اللّه الكرّاي «نيويورك» بيت مال المؤمنين وغير المؤمنين بالنظام العالمي الجديد هي مدينة لا تهدأ.. فهي بصخبها وضجيجها وحركيتها وكثرة «ورشاتها» ومكاتبها وبنوكها، تعدّ رمز النظام الرأسمالي في أعلى مراحله.. ففي «نيويورك» تخضع حركة البيع والشراء الى نظام سريع ومضمون هدفه تسهيل حياة الفرد (في الظاهر) والزجّ بهذا الفرد زجّا في بوتقة الاستهلاك والخضوع للنظام الرأسمالي (في الباطن).. «نيويورك» حيث قطاع المال والمضاربات «وولت ستريت» يقف «داو جونز» (الدولار) في قلب الحلبة.. حلبة الملاكمة، يتلقّى «اللكمات» بالتقسيط أو بين الفينة والأخرى، لكنه يسدد اللكمات تباعا بشكل فيه حرفية عالية، وبطريقة لا تضاهيه فيها حتى منتديات لندن وطوكيو وباريس وبرلين مجتمعة.. هكذا هي نيويورك، تنام وتصحو على نفس الوتيرة، الفرد فيها «مورّط» حدّ النخاع في الشراءات والاستهلاك، الحاصل على شغل فيها محظوظ والذي لا يملك دخلا ولا يستطيع دخول المنظومة «Le systèmeس مطحون.. «نيويورك» جرحت في شخصيتها الاعتبارية برجي التجارة العالمية، لكن هذه «الوخزة» في نخاع الرأسمالية، كلفت أهالي نيويورك أرواحا بريئة، وجعلت من المكان «الصفر الأكبر» «Grund Zéroس.. الآن وبعد مرور ثلاث سنوات ونيف على تفجير البرجين، مازال النّاس يعانون من جرح ومن وخزة ومن ألم على الضحايا.. جنسيات عديدة أودت بها التفجيرات، وحتى لا نحصر نذكر أن سيدة عربية فلسطينية مقيمة بالمدينة، كتب اللّه لها كما العديدين عمرا جديدا، حين كانت في الطابق الخامس من المبنى الثاني، وقرّروا جماعة أن لا يستمعوا ولا ينفذوا ما يقوله صوت عبر المكبّر أن الزموا مكاتبكم ولا تخرجوا.. خرجت الكوكبة ومنها السيدة العربية، التي كانت تشتغل في بنك لإحدى الدول الأوروبية، وبعد دقائق أو ربما ثواني كانت الطائرة الثانية تخترق الاسمنت وتحول المبنى والبشر والمكاتب والأوراق الى فحم.. نعم غادرت، وتركت وراءها زملاء وزميلات لها تبكيهم الى اليوم كانت تعمل معهم في الطابق الثمانين، وقد تركت العمل معهم قبل الحادي عشر من سبتمبر بخمسة أشهر، ونزلت في عملها الجديد الى الطابق الخامس، الذي كان فأل خير عليها فأنقذها الإله.. الآن، خرسانات واسمنت مسلّح، تعاد بهما بنايات أخرى، أشدّ توقا الى الفضاء، ولا أحد يعلم المثال أو الصورة أو الرسم الذي ستكون عليه هذه الساحة «المصغّرة» والمحاطة بناطحات سحاب من كامل الجهات، تعجب كيف أن الطائرتين اخترقتا وبدقة هذه المطبات التي تبدو للعين المجردة أضيق من أن تتقبل زلزالا كالذي حدث صبحية الحادي عشر من سبتمبر.. في تلك الساحة، يأتي الزوار والسياح يتفرّجون ويصوّرون ويذكرون صورا أخذها هواة ومارة وقناصة أحداث.. هذه الصور الفظيعة تجدها مجسّدة في قميص قطني أو قبّعة صيفية من تلك التي يستعملها الرياضيون وقد صور فيها البرجان وهما ينهاران أو يتهاويان.. عجبي أمر هذا النظام الاقتصادي، كل شيء خاضع للبيع وللاستثمار حتى المآسي.. فقد وقف هذا الشاب على الرصيف يعرض عليك قبعة الحادي عشر من سبتمبر أو قميص «ناين إلا فن Nin Elven» (أي 11 سبتمبر) وهناك شاب آخر يعرض عليك «ألبوما» للصور الفظيعة التي يريد الأمريكيون والعالم نسيانها.. لكن ليس هؤلاء البائعون فقط هم الذين يرنون الى ربح من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بل مرشح الحزب الجمهوري «جورج دابليو بوش» أيضا رأى أن طريق الانتصار في العودة الى البيت الأبيض يمرّ عبر تلك الصور التي اعتمدها في انطلاق حملته الانتخابية، وهي عملية ندّد بها العديدون، لأن النسيان في مثل هذه الحالات حكمة.. والحكمة عادة ما تغيب في سباق الرئاسة الأمريكية.. «نيويورك» ليست فقط المشهد المتقدم من المنظومة الاقتصادية الرأسمالية، بل هي أيضا المكان المتقدم للقرار الدولي الجديد، الذي أصبح يعمل وفق منهج «دعه يعتدي دعه يمرّ»، فالقرار بيد واحدة، وصاحب القرار على بيّنة من أن لا أمم متحدة بلا أمريكا ولا أمريكا بلا أمم متحدة.. هذا المشهد نجده في تماثل تام مع المبدإ الاقتصادي الليبرالي «دعه يعمل دعه يمرّ» «Laisser faire laisser passerس.. هذا هو عنوان القوة الأحادية، ومن يكذّب يسأل العراقيين، ومن به صمم عليه الاصغاء جيدا لما يحاك ضدّ فلسطين الشعب وفلسطين القضية وفلسطين اللاجئين وفلسطين حق العودة.. في رحاب الأممالمتحدة، وفي قاعة بالطابق الأرضي، شهدت جدرانها وفضاؤها، أفضل اللقاءات التي يحلم صحفي أن يحصل عليها، بين كوكبة من الصحفيين العرب يقول نص الدعوة ان الامانة العامة اختارتهم لأنهم مؤثرين في الرأي العام العربي.. كانت ساعات السجال بين كبار موظفي الأممالمتحدة، من المختصين في الشؤون الانسانية الى العاملين في الحقل السياسي الي المبعوثين الى العراق مرورا بمن لهم صلة بالقضية الفلسطينية، وبين الصحفيين العرب، على أشدّه.. فنحن من جهتنا لم نتوان في المصارحة عند المطارحة، والمتحدثون لم تغب عنهم هذه الحقيقة، فسارعوا الى نزع قناع الديبلوماسية، ففرحنا ويسّر علينا الأمر عملنا، رغم أن هذا الخلع كان مشروطا ب»أوف ذي ريكورد» (خارج التسجيل).. عندما زرت مجلس الأمن الدولي صبيحة الخميس، لحضور «طوعي» لإحدى جلساته، التي كانت بالمناسبة حول الارهاب وما أدراك ما الارهاب، كانت القاعة الزرقاء (كراسيها كذلك) لا تزال صامتة على حجم التلاعب الذي أضحى سمة القوة في فترة ما بعد الحربين.. قاعة تتوسط فناءها لوحة معبّرة، نجدها في اتجاه معاكس لما يرشح به مجلس الأمن الدولي منذ ثلاثة عشرة سنة.. لوحة تصور الحرية والنضال من أجل الحرية.. تصور الصمود على السياط القاهرة، من أجل الانعتاق، فكلمة حرية وكلمة انعتاق لا معنى لهما ان لم يكونا نورا في آخر نفق العذاب.. تساءلت وأنا نصف منتبهة الى خطاب حفظناه حول الارهاب حدّ الملل، خطاب يجمّل من خلاله ضعفاء العصر كلماته حتى يرضوا أمريكا ويقفز المقتنصون للفرص الى سطح الأحداث يبدون شطحات حول الارهاب أيديهم ملطّخة بالارهاب المنظم، نعم لقد أصبح «لإسرائيل « باع في المسألة وخطاب تنن من خلاله الارهاب الذي يسلط عليها من أطفال الحجارة ومن القنابل الجسدية التي صبرت على فعل الأممالمتحدة وانتظرت منه حلا فلم تر الحلّ، ورفض الفلسطينيون قولة : ولا عزاء لشعب فلسطين.. فآثروا تطبيق ما تطالعهم به لوحة مجلس الأمن الكبرى التي تتصدر الجلسة الدائرية، إذن تساءلت وأنا على تلك الوضعية : أأصاب أعضاء مجلس الأمن الحول أم انعدمت فيهم الرؤية وغاب عنهم الحسّ الفني الى درجة يتركون فيها شعب فلسطين بلا سند قانوني ويغيبون الشرعية عن قضية العراق؟ ألم يلتفت أحدهم الى اللوحة البائسة المتصدرة فناء القاعة، فيصيح في القوم المجتمعين أن كفوا عن استعمال هذا المجلس لمآرب غير التي نصّ عليها الميثاق حين تشرح بنوده. إن مهمة مجلس الأمن هي الحفاظ على الأمن والسلم الدوليّين.. لماذا يُغتال نظام الأمن الجماعي، على صخور النرجسية والذاتية والفردانية، في حين كان العالم يكون أجمل بلا هذا التكالب المحموم على حلّ مشاكل مصانع السلاح عوض التسابق نحو تحقيق آلام البشر التي ازدادت كلما أضعف مجلس الأمن وزعزعت الأممالمتحدة؟ كانت جلسة مجلس الأمن الدولي عبارة على استعراض للوجبات من تلاميذ في مدرسة نائية بلا رقيب ولا محاسب ولا يخضع المتحكّم فيها الى مساءلة.. الكل يتحدث عن انجازاته تجاه الإرهاب وعن استحقاقاته التي نفذها تجاه القرار 1373 لمحاربة الإرهاب.. عجيب أمر «نيويورك» مدينة صغيرة حجما، تختزل واقع البشرية وترقد على مستقبلها (البشرية)، ولا من معارض.. ضمن هذه البوتقة، تعمل الأممالمتحدة بكل آلياتها وأجهزتها، وضمن هذا الواقع الجديد الذي قطع مع أيام «داغ هامرشولد» و»كورت فالدهايم» حين كانا يركنان الى قطب ان حاول القطب الآخر الضغط عليهما. رحم اللّه زمانا، كان مبدأ عدم الانحياز قطبا ثالثا يحسب له ألف حساب وقتما كان الارهاب ارهابا والمقاومة مضادة له.. أما اليوم، فالخطاب الواحد والتوجّه الواحد والحقيقة الواحدة، أرّقت المفكّر والفنان والصحفي والمواطن.. أحد محاورينا، اختزل الموقف الناقد للأمم المتحدة بالقول : «لا يمكنك أن تضرب أحدهم على رأسه عندما تكون أصابعك بين أسنانه والأممالمتحدة أصابعها بين أسنان القوى العظمى» وهنا ردّ أحد الصحفيين بأن الأقوم عن أن أصابع الأممالمتحدة بين أسنان الولاياتالمتحدةالأمريكية! الأمين العام المساعد للشؤون الانسانية، قال في المائدة المستديرة، ان الأممالمتحدة تحاول جاهدة لتقديم المعونة للشعب الفلسطيني، وأنهم دوما في سجال مع اسرائيل القوة المحتلة.. «جان إيلند» أضاف أن العمل الانساني الأممي كان يُنظر اليه على أن عمل غربي «وينظر إلينا على أننا نمثل مصالح غربية وهذا مفزع» لأن بدون مهمات انسانية في فلسطين فإن نساء وأطفالا سيموتون جوعا. لكن بخصوص سؤال ل»الشروق» حول الصمت الأممي الانساني تجاه الوضع في فلسطين وتحديدا على اثر مذابح مثل جنين ورفح وغيرهما وكذلك الشأن في العراق.. حيث بدا الموقف وكأن الأممالمتحدة تحل مشاكل واشنطن هناك، بعد أن ذهبت الى الحرب بدون الأممالمتحدة، قال انه يمثل المنظومة الانسانية في الأممالمتحدة وان هناك مساعدات عالمية وعربية واسلامية، وأضاف أنه في عالم يعوزه الكمال حيث تتناحر القوى السياسية، يمكن ان نسحب موظفينا وندين بوش ولكن لا أظن أنهم سيفرحون، علينا أن نقدم المساعدة ونتحدث بصراحة. وأضاف أيضا أن الحالة في العراق «مسيّسة» جدا ونبّه من مغبّة انتهاج منهج كلامي مثل بوش سيّئ وشارون سيئ علينا أن ننسحب.نعم كثيرا ما أقرّ محاورونا من كبار مساعدي الأمين العام للأمم المتحدة، بأن الوضع في فلسطين سيئ وفي العراق أسوأ، بل ان بعض الأطراف الدولية تقول ان لا وضع أسوأ في العالم مثلما عليه الشأن في فلسطين.. حاجز في كل بضعة أمتار وهذا يطبّق (سياسة الحواجز) على موظفي الأممالمتحدة وعلى سيارات الاسعاف.. هكذا هو وضع الأممالمتحدة في لعبة السياسة الدولية، وهكذا هو وضع القضيتين الفلسطينية والعراقية في «نيويورك» أي مكانتهما في غير انفصال عن وضعهما في واشنطن.. «نيويورك» التي ندّد فيها وهدد أصحاب المصالح والمال، «مال جيبسون» لأنه وضع دم المسيح في رقبة غلاة اليهود، تتهيأ فيها الدوائر المتنفذة اليوم الى اكمال السيطرة الأحادية على الأممالمتحدة واستغلالها، حتى تثب على مجلس الأمن الدولي تستخرج منه قرارا يعاقب المعادين للسّامية.. نعم اذا انتقدت اسرائيل أو أنت نددت بنهجها الاستعماري التوسعي الدموي فأنت معاد للسامية، حتى ان كنت عربيا ساميا.. فهذه احدى سخريات القدر. هذا هو الجدل الآن الذي يستوي على نار هادئة وفي الكواليس، بعد أن كشف المتظاهرون ضد شريط «جبسون» «آلام المسيح» النقاب من خلال شعاراتهم التي رفعوها ضدّه على أن المصفاة الآن أو الغربال للفن كما للسياسة هو معاداة السامية من عدمه.. فعن أي صورة للأمم المتحدة يتحدّثون؟.. وأي موقف من الأممالمتحدة ينتظرون؟ وإلى حلقة أخرى.. من يحكم العالم الولايات.. أم الأمم.. المتحدة؟