اشرف الرئيس زين العابدين بن علي صباح امس على موكب انتظم احياء للذكرى الثامنة والاربعين لعيد الاستقلال. والقى سيادته بهذه المناسبة خطابا في ما يلي نصه: نحتفل اليوم بالذكرى الثامنة والاربعين لاستقلال تونس مستحضرين بكل نخوة واعتزاز ذلك الحدث التاريخي الخالد الذي تحررت فيه بلادنا من الاستعمار واسترجع فيه شعبنا سيادته وكرامته. ان الاستقلال من امجاد شعبنا ومصدر فخر لأجياله المتعاقبة فيه رموز ومعان لا ينال منها الدهر وقيم راسخة في النفوس اساسها الأباء والتعلق بالوطن والاستعداد الدائم للذود عنه والدفاع عن حرمته. ان الاستقلال كان ثمرة تضحيات الشهداءت وكفاح شعبنا في ملحمة بطولية خاضها على مدى ثمانية عقود من الزمن وضرب خلالها اروع الأمثلة في النضال والصمود. انها ملحمة الكفاح الوطني التي عاشتها كل الجهات وشاركت فيها اجيال متعاقبة من جميع الشرائح والفئات واسهمت فيها كل القوى الوطنية على اختلاف مكوّناتها واضطلع فيها الحزب الحر الدستوري بدور تاريخي رائد. ونحن نذكر بكامل الخشوع والاجلال شهداءنا الأبرار وتضحيات المقاومين المناضلين مكبرين دور القادة والزعماء مقدرين جليل اعمالهم وفي مقدمتهم الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة. اننا على قدر اعتزازنا برصيدنا النضالي العريق وبأمجاد شعبنا ومكاسبه التاريخية نحرص على صيانة هذا الإرث حتى يبقى حيا في الذاكرة مليئا بالعبر والدلالات تنهل منه الاجيال المتلاحقة معاني الوفاء لتونس والولاء لها دون سواها. ان واجب الحفاظ على الاستقلال لا يقل مسؤولية عن نيله كما ان شرف العمل على دعمه وتعزيز مقوّماته يضاهي شرف النضال والكفاح من اجل الحصول عليه. وقد اردنا لتحول السابع من نوفمبر ان يكون تعزيزا لمناعة تونس واستقلالها وتأكيدا لسيادة شعبها وانقاذا لمكاسبها ودعما لها وهي مهمة تاريخية جسيمة اقدمنا عليها ونواصل الاضطلاع بها تكريسا لما عاهدنا عليه الشعب وترسيخا لمشروعنا الاصلاحي الشامل بمختلف أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وان ما تنعم به بلادنا اليوم من أمن واستقرار ورفاه وما تحظى به من تقدير واحترام انما يقوم شاهدا على سلامة خياراتنا وعلى نجاحنا في تحقيق اهدافنا الوطنية في شتى المجالات سواء تعلق الامر بتكريس الديمقراطية والتعددية وضمان حقوق الانسان او بتوفير شروط التنمية الشاملة وبناء المجتمع المتضامن او بتعزيز مقوّمات هويتنا الحضارية وتحقيق الانفتاح على الحداثة والتفاعل المثمر مع روح العصر. انه نجاح حققناه بفضل ما يحدونا من عزم على الاصلاح والتغيير وبفضل ما نلقاه من ابناء شعبنا في الداخل والخارج من مساندة وتأييد ولن يزيدنا هذا النجاح الا مثابرة على التقدم بخطى حثيثة وهمة متجددة على درب الفعل والانجاز وتحقيق المكاسب لفائدة اجيال الحاضر والمستقبل. ان الاستقلال بابعاده الكبرى التي تتجاوز الوقائع التاريخية المجردة مكسب عظيم وهو راسخ في نفوسنا نستمد منه العزم والطموح لخدمة الحاضر والتأسيس للمستقبل حتى تكون انجازاتنا قوة تتعزز كل يوم وترتقي بتونس في كل مرحلة لتبقى منارة حضارية وقلعة منيعة الاسوار. ان الديمقراطية هي خيارنا وقد راهنا عليها لاننا نؤمن بحق كل التونسيين والتونسيات في المشاركة في الشأن العام والمساهمة في خدمة البلاد وبحق الاختلاف في الرأي والاجتهاد في ظل قيم الجمهورية ومبادئ المواطنة واحترام القانون والمؤسسات والولاء للوطن. وقد قطعنا اشواطا هامة في مجال البناء الديمقراطي وضمان حقوق الانسان وتكريس التعددية السياسية. وجاء الاصلاح الدستوري منطلقا جديدا لمرحلة متقدمة سنؤكد فيها مرة أخرى ان الديمقراطية في تونس خيار لا رجعة فيه نكرسه بعزم وثبات ونوفر له ضمانات النجاح واسباب الرسوخ في العقليات والسلوك. وستكون الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة التي نعلن اليوم دعوة الناخبين اليها يوم الاحد 24 اكتوبر 2004 فرصة متجددة لمزيد التقدم على هذا المنهج في كنف الديمقراطية والشفافية التامة واحترام القانون وفي ضوء ما اعتمدناه من اجراءات وتعديلات قانونية في هذا الخصوص. وسنتيح الفرصة بمناسبة تلك الانتخابات لمن يرغب في ذلك من البلدان الصديقة ليتابع سيرها ونتائجها حتى يقف على ما بلغه شعبنا من نضج ووعي ويلمس عن كثب مدى حرصنا على سلامة العملية الانتخابية واحترام القانون وقيم الديمقراطية. ان الديمقراطية احترام لمبادئ المنافسة النزيهة وقد وفرنا كل الوسائل والامكانيات حتى تتمكن الاحزاب القانونية على اختلاف مواقعها في الحكم او في المعارضة من الاضطلاع بدورها والاستعداد لحملاتها الانتخابية حتى تحقق النتائج التي ترجوها فهي المسؤولة اولا واخرا عما تجنيه من صناديق الاقتراع. وحتى نضمن تكريس حق كل الناخبين في المشاركة في الانتخابات القادمة والاضطلاع بواجبهم في هذا المجال نأذن اليوم طبقا للقانون بأن ينطلق توزيع بطاقات الناخبين خلال الاسبوع الاخير من شهر ماي 2004 . وحتى نؤمن للانتخابات القادمة ارفع مستويات الشفافية وفضلا عما اقررناه في هذا الاطار من دعم لصلاحيات المجلس الدستوري وما جاء في تعديل المجلة الانتخابية قررنا بعث مرصد وطني للانتخابات يضم شخصيات وطنية معروفة بكفاءتها وخبرتها واستقلاليتها لمتابعة سير الانتخابات بمختلف مراحلها. اننا نحتفل غدا بعيد الشباب وهي مناسبة أتوجه فيها مجددا بالتحية الى شبابنا في الداخل والخارج مذكرا اياه بتضحيات جيل الاستقلال حتى يتحمل بدوره مسؤوليته في الحفاظ على وطنه وصيانة مكاسبه والسهر على مناعته. وهو ما قصدنا اليه في جمعنا بين عيدي الاستقلال والشباب حتى تدرك الأجيال الجديدة جسامة المسؤولية التي آلت اليها وتضطلع بها على أكمل وجه لتكون في مستوى الآمال المعلقة عليها. إننا نراهن دائما على الشباب ونثق به ونعول على ما لديه من طاقة وعزم وطموح ونعتمد عليه للإسهام في بناء حاضر تونس وصنع مستقبلها. ولذلك ما ننفك نحيطه بالرعاية اللازمة ونوفر له الامكانيات ونتعهده بالدعم والتشجيع ونصغي الى مشاغله بحرص واهتمام ونفتح أمامه أوسع الآفاق في مجالات التربية والتكوين والتعليم العالي وفي الثقافة والرياضة والترفيه جاعلين من تشغيله أولوية وطنية مطلقة حتى نضمن له أسباب الحياة الكريمة. وإننا على قدر اعتزازنا بما يتحلى به شبابنا اليوم من حب لتونس وولاء لها وتعلق بهويته الوطنية وحرص على التفتح ومواكبة العصر وعلى قدر مباهاتنا بما يسجله أبناؤنا وبناتنا من نجاحات وانتصارات وما يؤكدونه من تفوق وتألق في مختلف الميادين العلمية والابداعية والرياضية وآخرها الفوز الباهر بكأس افريقيا للأمم في كرة القدم فإننا ندعو الشباب الى المثابرة على البذل والاجتهاد ونحثه على مزيد الاقبال على تحصيل العلوم والمعارف واتقان المهارات والسيطرة على أحدث التكنولوجيات وأدقها في زمن غدت فيه أسباب القوة والمناعة مرتبطة بامتلاك ناصية العلوم والتكنولوجيا وبالقدرة على الاكتشاف والابتكار والاستثمار في الذكاء. ودعما لدور فضاءات الاعلامية بدور الشباب في نشر الثقافة الرقمية نعلن اليوم عن تخفيض معاليم استغلال شبكة الانترنات بالمؤسسات الشبابية بنسبة بالمائة واعتماد تعريفة رمزية خاصة بمؤسسات الشباب ونواديه بالمناطق الريفية. ان مراهنتنا على المرأة تنبع من ايماننا بدورها الأساسي داخل الاسرة والمجتمع وبأن لا تنمية ولا ازدهار بدون مشاركة المرأة لذلك رسخنا حقوقها وعززنا مكاسبها وبوأناها المكانة التي تليق بها وفتحنا أمامها افاق العمل وتحمل المسؤولية جنبا الى جنب مع الرجل. واذ نكبر الدور النضالي الذي اضطلعت به المرأة في بلادنا سواء أثناء الكفاح الوطني او في بناء تونس الحديثة ونثمن جهودها في غرس مبادئ التغيير وخياراته وانصهارها في مشروعنا الاصلاحي الكبير فإننا نحفز المرأة الى تكثيف هذه الجهود حتى تواصل مساهمتها الفاعلة في كسب الرهانات وتحقيق الطموحات. إن التنمية الشاملة والمتوازنة هي السبيل إلى قوة الشعوب وشرط مناعتها وأمنها وعنوان استقلالها وسيادتها وعلى قدر نماء البلدان يكون تقدمها ويتحقق رفاهها وتتوفر شروط الاطمئنان على حاضرهاومستقبلها لذلك أقمنا سياستنا التنموية على التلازم بين البعدين الاقتصادي والاجتماعي وبادرنا بإدخال الإصلاحات اللازمة على اقتصادنا وحررنا المبادرة وشجعنا على الاستثمار واعتمدنا برنامج التأهيل الشامل لتمكين الاقتصاد الوطني من مواكبة التحولات والانخراط في الانساق الجديدة للاقتصاد العالمي. ورغم محدودية مواردنا الطبيعية وحدة التقلبات الاقتصادية في العالم تمكنت بلادنا بفضل هذه التوجهات من تحقيق نتائج باهرة على صعيد النماء الاقتصادي والاجتماعي أبرزتها النسب والمؤشرات المسجلة باطراد وأكدتها الهياكل والمؤسسات العالمية المختصة. إن العالم يشهد تحولات متسارعة وتبدلا في المفاهيم والقيم وتقلصا للمسافات والحدود في ظل تيار العولمة والثورة الاتصالية العميقة وقديما قال ابن خلدون : «وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث» وهو ما يطرح على مختلف المجتمعات والبلدان رهانات جديدة وتحديات كبرى ليس أقلها التحدي الثقافي والحضاري الناجم عن انتشار نمط ثقافي معولم يهدّد الشعوب في كيانها الثقافي ووجودها الحضاري. فهو تحد مصيري لا سبيل إلى مغالبته إلا بتأكيد ذاتيتنا والحفاظ على أصالتنا والدفاع عن هويتنا وثقافتنا وتجديد قدرتنا على الإضافة والتفاعل الإيجابي مع ما يجد في العالم من متغيرات وتطورات. وإننا نجدد الدعوة في هذه المناسبة إلى مثقفينا ومبدعينا وسائر أهل الفكر في بلادنا إلى رفع هذا التحدي وذلك بحفز ما لديهم من طاقات الخلق والإبداع والابتكار دعما لإشعاع بلادنا ورسما لأبهى صورة حضارية ممكنة لتونس. تونس ذات التاريخ العريق المتمسكة بمقوماتها الوطنية المتعلقة بالقيم العليا والمبادىء الكونية السامية المتفتحة على الآخر والداعية إلى الحوار بين الثقافات والحضارات سبيلا إلى بناء عالم متضامن يؤمن بالتنوع والاختلاف بقدر إيمانه بالانتماء الإنساني الواحد والمصير المشترك. إن ما نبذله من جهود لتعزيز مكانة تونس في العالم وخدمة مصالحها ودعم قدراتها ومزيد تفعيل دورها في محيطها الإقليمي والدولي إنما ينبع من حرصنا الدائم على إعلاء شأنها وجلب الاحترام والتقدير لشعبها. كما نحرص على توسيع هذا الإشعاع من خلال ما نتقدم به إلى المجموعة الأممية من مبادرات نستمدها من صميم رؤيتنا للتنمية المتضامنة ومن جوهر تصورنا لحقوق الإنسان في أوسع معانيها وأشملها. وإن ما لقيته مبادرتنا من تجاوب دولي وأممي إنما يعكس ما تحظى به تونس لدى جميع دول العالم من ثقة وتقدير يتجليان أيضا من خلال ما يجري على أرضها من تظاهرات إقليمية ودولية متميزة خدمة للسلم والتعاون والتضامن في العالم. وان تعلقنا بالبناء المغاربي هو من حرصنا على دعم قدرات شعوبنا المغاربية وتعزيز مقومات نمائها وقوتها وهو خيار استراتيجي نؤكده باستمرار ونعمل على تحقيقه بالتعاون مع أشقائنا في المنطقة من أجل ترسيخ أسس اتحاد دول المغرب العربي وتفعيل هياكله وازالة العقبات القائمة في طريقه. وإذ نؤكد مساندتنا المطلقة للشعب الفلسطيني الشقيق ولكفاحه المشروع من أجل الحرية والكرامة واقامة دولته المستقلة فإننا نجدد الدعوة إلى ضرورة تكثيف المساعي لاستئناف المفاوضات وتفعيل خريطة الطريق وايجاد حل سلمي عادل ودائم وشامل ينهي الصراع الدائر في المنطقة ويوفر لسائر شعوبها أسباب الأمن والاستقرار. كما نرجو أن تقع معالجة الأوضاع القائمة في العراق في أسرع الأوقات حتى يتمكن شعبه الشقيق من اعادة اعمار بلاده بما يضمن له الأمن والاستقرار ويكرس سيادته ووحدته الترابية. ونحن متمسكون بالتضامن العربي حريصون على تجسيمه وتوسيع مجالاته وتطوير آلياته. وإذ تستعد بلادنا لاحتضان أعمال القمة العربية فإننا سنعمل بالتعاون مع القادة الأشقاء على الارتقاء بالعمل العربي المشترك لما فيه خير بلداننا وطموحات شعوبنا وتماشيا مع رهانات المرحلة وتحدياتها. وهو ما يتوافق مع حرصنا على دعم أواصر التعاون والتكامل مع البلدان الافريقية الشقيقة والمساهمة الفاعلة في ترسيخ أسس الاتحاد الافريقي. كما اننا نراهن على التعاون مع الاتحاد الأوروبي الذي أبرمنا معه اتفاقية شراكة نحرص على أن تكون اطارا شاملا لتفعيل هذا التعاون على أسس متكافئة تخدم المصالح المشتركة. ونحن نعمل كذلك على توسيع علاقات التعاون وتكثيفها مع بلدان القارتين الأمريكية والآسيوية وسائر بلدان العالم توسيعا لمجالات حضور بلادنا وبحثا عن المزيد من الفرص والامكانات لفائدتها وتكريسا لايماننا بأن التعاون والتكامل والشراكة هي الأسس التي يجب أن تقوم عليها العلاقات الجديدة بين الدول والشعوب. ان ابناء تونس في الخارج هم دائما محط عنايتنا ورعايتنا نحرص على تمتين صلتهم بالوطن ولا ندخر جهدا في متابعة أوضاعهم والاحاطة بهم ولا سيما الأجيال الجديدة منهم. واذ نؤكد اعتزازنا بما يتحلى به التونسيون في الخارج من روح وطنية عالية وتعلق ببلادهم وحرص على المساهمة في دفع مسيرتها على درب التقدم والتنمية الشاملة فإني أحثهم على المضي قدما في هذا السبيل وفاء لتونس واضطلاعا بواجبهم في الذود عن كرامتها والتعريف بخياراتها ومكاسبها ونشر صورتها الناصعة ونهوضا بمسؤولية المشاركة في تحقيق أهدافنا الوطنية وبلوغ ما رسمناه لشعبنا من آفاق الرقي والتقدم. اننا على العهد نعمل من أجل رفعة تونس ومجدها نجدد نجاحاتها ونصون حرمتها ونحمي حماها ونفتح أمامها سبل التقدم والازدهار حتى تظل حرة منيعة أبد الدهر ويظل شعبها الأبي عزيزا كريما على الدوام. وحضر الموكب النائب الأول لرئيس التجمع الدستوري الديمقراطي والوزير الأول ورئيس مجلس النواب ومفتي الجمهورية وأعضاء الديوان السياسي للتجمع والمجلس الاستشاري للمناضلين. كما دعي لحضوره الأمناء العامون للأحزاب السياسية ورؤساء المنظمات الوطنية والهيئات القائمة والمجالس الاستشارية وعدد من سامي اطارات الدولة والمناضلين والمقاومين والشخصيات الوطنية.