أستاذ جامعي باحث في مجال الطاقات المتجددة عضو نقابة كتاب تونس كنت كباقي أبناء أمتنا العربية التواقة للانعتاق والتحرر أتابع خطابات السيد حسن نصر الله منذ تحرير جنوب لبنان سنة 2000 بعدما تمكن جنود حزب الله من قهر أحد أقوى جيوش العالم والذي اضطر للانسحاب من جانب واحد وتحت جنح الظلام، ثم جاء العدوان الغاشم الذي شنته إسرائيل على لبنان في 12 يوليو 2006 (حرب تموز) والذي استمر ثلاث وثلاثين يوما عقب العملية النوعية التي قام بها حزب الله والتي أسفرت عن أسر جنديين اسرائيليين، حيث أظهر حزب الله بسالة وصمودا لا مثيل لهما طيلة الصراع العربي الاسرائيلي عندما تمكن من ضرب العمق الإسرائيلي ذاته في سابقة فريدة من نوعها مما جعل نصر الله زعيما يفرض احترام وتعاطف الكثير من الجماهير العربية بجميع طوائفها، واللافت للانتباه في خطابات نصر الله هو ما تميز به من الصدق والوضوح حتى أن استطلاعا إسرائيليا للرأي كشف عن أن تصريحات الأمين العام لحزب الله أكثر مصداقية لدى الاسرائيليين من الصحافة والمسؤولين الإسرائيليين وأن الشعب الإسرائيلي كان يؤمن بصحة تصريحات حسن نصر الله اكثر من تصريحات وزير دفاعهم عمير بيرتس. ثم جاءت الثورات العربية ابتداء من تونس وصولا الى سوريا لنشهد انقلابا واضحا في اسلوب الخطاب لدى كل الرموز السياسية والدينية فتراوحت الآراء واختلطت بين ما هو فقهي وما هو سياسي فكان التحريض على الثورة ضد الحكام الجائرين يخضع للخارطة الجيوسياسية حينا وللمصالح الاستراتيجية أحيانا حتى وصل الأمر إلى مرحلة التكفير والتسفيه، فأصبح المواطن العربي الذي تعلقت همته ببعض هذه الرموز يتأرجح بين ما آمن به من قيم ترسخت في باطنه طيلة هذه السنوات وبين قيم جديدة لم يفهم مأتاها، وهنا أشير الى بعض الفقهاء الذين وقفوا بكل ما أوتوا من "حكمة" ضد الثورة المصرية واليمنية والليبية معتبرين أنها دعوة واضحة للفتنة وشق الصف وأن أمريكا واسرائيل هي من تحرك هؤلاء، أما الذين اعتبروا أن هذا جهادا في سبيل اعلاء كلمة الله تم تصنيفهم من أولئك الذين يسعون لهيمنة الاسلام السياسي على العالم الجديد وهوما يعرض وجوبا كل السياسات الديموقراطية والليبرالية المتحررة إلى التهميش في هذه المنطقة. فعلى إثر الثورة المصرية استمعنا الى خطاب السيد حسن نصر الله الذي جاء محملا بالعبارات التعبوية لشباب ميدان التحرير مطلقا كلماته الشهيرة" يا شباب مصر الأحباء إننا نرى في وجوه شهدائكم وجوه شهدائنا، ونسمع في أنين جرحاكم أنين جرحانا، ونشهد في صمودكم في الساحات صمود الأبطال المقاومين في لبنان وفلسطين فى مواجهة كل الحروب والتهديدات والأخطار"، وهنا تواصل خطابه مؤيدا لثورات الكرامة ومنبها من خطورة الالتفاف عليها من قبل عملاء أمريكا، وما نلحظه في بدايات هذه الثورات أن سلميتها كانت أمرا لا يشك فيه أحد بحيث أن الشعوب لم تحمل قطعة سلاح واحدة في وجه الأنظمة باستثناء ليبيا، حتى في اليمن التي كانت تطفو فوق بحر من السلاح ظلت ثورتها سلمية برغم كل الدماء والجراح، ولعل ثورة البحرين كانت نقطة تحول في مواقف نصر الله التي اكتست طابعا مختلفا خصوصا بعدما أعلن بعض علماء السنة بأن ما يجري في البحرين هو صراع طائفي وفتنة لا بد من إخمادها مما اضطرني و بعض المتابعين أن ننسى أن الطائفة الشيعية تمثل الأغلبية في البحرين وأن سطوة عائلة آل خليفة على كل دواليب الدولة أفقد الشعب بكل طوائفه الشعور بالكرامة وحرمهم من العدالة والمساواة والتوزيع العادل للثروة، ومن ثم تم استدعاء قوات درع الجزيرة الأمنية للدخول للأراضي البحرينية حتى "تطهّرها" من دعاة الفتنة والانقسام فاستقر الأمر لآل خليفة بعدما حرمنا من متابعة تفاصيل الصراع على القنوات التي عرفت بتغطيتها النزيهة لثورات الربيع العربي . وفي غضون ذلك انطلقت الشرارة في شوارع سوريا لتخرج الجماهير رافعة شعارات سلمية منادية بحقها الطبيعي في المشاركة في صنع مستقبل بلدهم ومحاسبة المسؤولين عن انتشار الفساد وضياع الثروات، والملاحظ أن الثوار في سوريا لم يطالبوا منذ البداية بإسقاط النظام كما هو الشأن بالنسبة لتونس ومصر وليبيا واليمن فكان رد النظام السوري أمنيا بامتياز ولم يأخذ وقته في انتهاج سياسة المراحل بل سارع في ترويع المتظاهرين بالاستخدام المفرط للعنف وتقديم الرصاص كأول وسيلة للرد على مطالبهم المنادية بالحريات والتعددية السياسية، وهو ما جعل امكانية الحوار أمرا غير ممكن أمام تزايد سقوط الضحايا، وهنا سارع نصر الله من خلال خطابه بالوقوف ضد هذه الثورة التي حاكت في بداياتها كل الثورات العربية من حيث سلميتها وشرعية مطالبها معتبرا أن ما يدور في سوريا هو مؤامرة حقيقية غايتها خدمة المصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة والهدف الأساسي منها هو ضرب المقاومة في لبنان وفلسطين، بل وأكد بأن بشار جاد في مساعيه نحو الإصلاح وهنا انتظرنا من نصر الله أن يتوجه بخطابه للمتظاهرين الذين يقتلون في الساحات بأيدي الجيش السوري الممانع والشبيحة النشامى كما توجه قبل ذلك لشباب التحرير في مصر ليعبر لهم عن تضامنه مع الشهداء حتى خرج علينا النظام بمسلسل المجموعات المسلحة التي سعينا جاهدين لتصديقها لكن دون جدوى. إن ما يلفت الانتباه هنا أن خطابات حسن نصر الله كانت تتميز بالدقة وجزالة العبارة وترابط الأفكار وقوة المضمون مما جعل خصومه في الداخل والخارج عاجزين طيلة سنين على الايقاع به في ازدواجية الخطاب أو طائفيته، ولكني كمتابع للشأن اللبناني منذ سنة 2000 ألحظ وبوضوح أن ما يقدمه نصر الله اليوم من حجج لتبرير وقوفه مع النظام السوري لم تكن مقنعة بالقدر الذي يجعلني أصدق أن ما يقوله ينبع من نفس المنطلقات والرؤى التي تنبع منها مواقفه السابقة ضد الظلم والقهر والاستبداد والكبر والغطرسة والطائفية، ولن أقف هنا موقفا ضد رؤيته أو تقييمه لما يجري فقد سبق وقلت بأن العديد من الرموز السياسية والدينية في العالم العربي تباينت مواقفهم وتناقضت وكانت أقرب للغموض منها لوضوح الرؤية، وبعيدا عن كل التحليلات السياسية والاستراتيجية والأيديولوجية والطائفية أجد نفسي أتساءل: ما الذي ستجنيه الأمة من وراء هذه المواقف المهتزة والمتناقضة؟ وكيف لي أن أقتنع بأن هذه القوى الممانعة قد ضحت بأموالها وأنفسها فقط من أجل تحرير الأرض والقضاء على الهيمنة الإمبريالية والصهيونية؟ فالأكيد أن هنالك أمرا ما يجعل من قتل المتظاهرين وقصفهم بالدبابات والطائرات أمرا مشروعا بالقانون والشرع، والأكيد أن هنالك أمرا ما يجعل قبول الحوار مع القتلة ممكن مع بشار وغير ممكن مع بن علي ومبارك والقذافي وآل خليفة، والأكيد أن أمرا ما يجعل نظاما خطط طيلة عقود لإرساء دولة أمنية طور من خلالها اجهزته المتعددة معتمدا الترويع في التعامل مع الاصوات المعارضة للاستبداد والمناوئة للفساد من الممكن أن يصنف على أنه الوحيد الممانع في المنطقة والأكيد أيضا أن هنالك أمرا ما يجعل من الحجاج بن يوسف بطلا تاريخيا اذ بفضله استقرت خلافة الأمويين وتتالت الفتوحات الإسلامية. آسف سماحة السيد لم يعد بوسعي أن أستمع الى خطبك بعد اليوم وبالرغم من أني حاولت أن أجد التبرير المقنع لمواقف حزب الله وحماس في البداية من خلال ما تقدمونه من أطروحات وتحليلات لكني رأيت أن رموز المقاومة في فلسطين قد نأوا بأنفسهم عن هذه المعركة وجعلوا أنفسهم خارج دائرة الصراع معتبرين أن ما يدور هو شأن داخلي أما أداؤكم طيلة الأشهر الأخيرة من تاريخ سوريا جعل الكثير ممن رفعوا صوركم بل وعلقوها في بيوتهم رموا بها اليوم خارجها فقد كانت رائحة دماء السوريين تصلهم إلى عقر ديارهم.