الشروط الألمانية تجاه الشعب الفلسطيني شروطٌ قاسية، وقد لا يقبل بها الفلسطينيون، وقد لا يرضون عنها لفقدانها النزاهة والعدالة والمصداقية، ولكونها تتعامل مع القضية الفلسطينية بمعيارٍ آخر مخالف تماماً لما تتعامل به مع الكيان الإسرائيلي. إذ ترى ألمانيا أنها جزء من الإتحاد الأوروبي، الذي يشترك ضمن الرباعية الدولية في شروطٍ يريد أن يمليها على السلطة الفلسطينية، فهي في الوقت الذي تقر فيه بحق الشعب الفلسطيني في أن تكون له دولة ووطن وعلم، تطالبه مسبقاً وقبل بيان حقيقة الموقف الإسرائيلي وجدية إجراءاته في مسار السلام، أن يعترف بدولة إسرائيل، وأن يقر عبر مؤسساته الوطنية بشرعية وجودها، ولكنها تمتنع تماماً عن رد أو صد الإجراءات الإسرائيلية الأحادية الجانب المتمثلة في الاستيطان ومصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية، وقراراتها بضم مساحاتٍ كبيرة من الأراضي الفلسطينية إلى حدود مدينة القدس، التي تصر على أنها العاصمة الأبدية الموحدة لكيانهم، وتقف عاجزة أو مكتوفة اليدين إزاء محاولات إسرائيل تكريس يهودية القدس، ولا تحاول أن تمنع السلطات الإسرائيلية من عمليات إبعاد وطرد السكان المقدسيين الفلسطينيين منها، رغم أن سفارتها وقنصليتها في إسرائيل تعلمان أن السلطات الإسرائيلية تتعمد تنفيذ سياسة تطهير عرقي لسكان المدينة المقدسة. إلا أن ألمانيا تجري تنسيقاً مع دول الاتحاد الأوروبي وخاصة فرنسا وإيطاليا وأسبانيا للتوصل إلى صيغة أوروبية موحدة، قد تكون ضاغطة أو مؤثرة على الموقف الأمريكي والإسرائيلي، إذ تؤمن أنها بغير موقف أوروبي موحد فإنها لن تتمكن هي بمفردها أو غيرها من التأثير الفاعل على أطراف الأزمة. ولكن الموقف الأوروبي يبقى دوماً على مسافة بعيدة عن الغضب الإسرائيلي والأمريكي، حيث يتعاطى على استحياءٍ وتردد في كل ما يخص أمن ومستقبل الدولة العبرية، رغم قناعته أن الحل الأمثل والذي يجب أن يكون اليوم أو في المستقبل، يقوم على أساس دولتين لشعبين، واعترافٍ متبادلٍ بينهما، ضمنٍ حدودٍ واضحة ومعترفٍ بها، وتعتقد الحكومة الألمانية أن إسرائيل تدرك يقيناً أنه لا يوجد أمامها غير هذا الحل، وأنها لن تقوَ في المستقبل القريب على مجابهة الرأي العام الدولي، الذي لن يقبل طويلاً بمعايير دولية مزدوجة ومتناقضة مع قيم حقوق الإنسان الآخذة في السمو والسيادة على كل القيم الأخرى. وتعتقد ألمانيا أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس هو خير من تشاركه إسرائيل في مفاوضاتها من أجل سلامٍ عادلٍ ودائم في المنطقة، وقد أبدى لهذا مرونة كبيرة، وقدم تنازلاتٍ مؤلمة، وأغضب الكثير من القوى الفلسطينية الأخرى، وتجابه معها من أجل تكريس موقفه الذي يؤمن به ويعمل من أجله، ولكن موافقته على العودة إلى طاولة المفاوضات تتطلب مواقف ومبادرات إيجابية من قبل الحكومة الإسرائيلية، وهو ما لا تدركه الحكومة الإسرائيلية التي تئد في كل مرة أي محاولة فلسطينية للتفاهم أو التقارب، وترى ألمانيا أن الموقف الفلسطيني يتسم بمرونة كبيرة بالمقارنة مع الموقف الإسرائيلي، ومع ذلك فهي لا ترى أي إمكانية لفرض شروطٍ على إسرائيل، أو الضغط عليها للقبول بما لا تؤمن به في هذه المرحلة، وتطلب ألمانيا المزيد من الوقت لمحاولة إقناع إسرائيل بجدوى حل الدولتين، وترفض أن تمارس باسمها وحدها ضغطاً على الحكومة الإسرائيلية، وترى وجوب توحيد موقف الإتحاد الأوروبي تجاه الحل المشترك. ولعل الملف النووي الإيراني الساخن يلقي بظلالٍ قوية جداً على الرؤية الألمانية للصراع العربي الإسرائيلي، حيث يرى الألمان أن التعامل مع الملف النووي الإيراني تالي لحل القضية الفلسطينية وليس سابقاً له، وأنه تابع لانطلاق مسار المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وبدون ذلك فإن الموقف الأمريكي والغربي منه يغدو أكثر حرجاً وصعوبة. وتعتبر أن مسألة الملف النووي الإيراني يصبح أكثر تعقيداً في ظل استمرار إسرائيل في مصادرة حقوق الشعب الفلسطيني، وفي ظل إصرارها على مواصلة الاعتداء عليه، وتدمير مقومات وجوده، وحرمانه من مستقبله في الحياة، فحتى يسهل على الغرب والولايات المتحدةالأمريكية المضي في مواجهة المشروع النووي الإيراني سياسياً أو عسكرياً، فإن المطلوب من إسرائيل أن تساعد دول أوروبا، وأن تعود إلى طاولة المفاوضات، وأن تقدم تنازلاتٍ جادة لشريكها في عملية السلام، وإلا فسيكون من الصعب تشكيل تحالف دولي ضدها، تشارك فيه دولٌ عربية وإسلامية. وترى ألمانيا في تهديد إسرائيل بقيامها وحدها بضربة عسكرية استباقية ضد إيران، أنها ضربٌ من الجنون، وعملٌ غير مسؤول، ومحاولة لجر العالم نحو حربٍ غير مضمونة النتائج، ولكنها ترى أنها وسيلة إسرائيلية لابتزاز دول أوروبا والولايات المتحدةالأمريكية لممارسة المزيد من الجهد الضاغط باتجاه الحل العسكري مع إيران، لمنعها من امتلاك القنبلة النووية، وتعطيل برنامجها النووي لسنواتٍ طويلة، ولكن ألمانيا تعتقد أن الحرب مع إيران تختلف كلياً عن الحرب ضد العراق وأفغانستان، وأنه سيكون لأي حربٍ معها تداعيات دولية خطيرة تتجاوز حدود المنطقة، وقد لا يكون لإسرائيل قدرة على التعامل معها أو السيطرة عليها. كما تتابع ألمانيا وتراقب بدقة كبيرة التغيرات العربية المتسارعة، وترى أن القوى الإسلامية آخذة في الصعود بقوة نحو سدة الحكم في البلاد العربية كلها، وأن بعضها الذي تأخر عن الوصول إلى السلطة سيلحق بمن سبقها في القريب العاجل، وأن صناديق الانتخابات البرلمانية والتشريعية ستقود القوى الإسلامية على اختلاف طيفها الفكري والانتمائي القديم إلى الحكم، وستجعل منها واجهة البلاد العربية، وستضطر الحكومات الغربية التي تؤمن بالديمقراطية وتدعو لها، إلى ضرورة الاجتماع بممثلي الحركات الإسلامية، وبوزرائها في الحكومات العربية، وستضع يدها في يدي بعضها، وستوقع معهم اتفاقيات ومعاهدات ثنائية ومتعددة، وستنشأ بينهم علاقات تعاون وشراكة بحكم مواصلة القديم أو توقيع الحديد، بما يجعل من بناء علاقاتٍ ثنائية معها وإجراء اتصالات سريعة مع ممثليها أمرٌ بالغ الأهمية والضرورة. تنظر الحكومة والنخبة الفكرية والسياسية الألمانية إلى أن نتائج الثورات العربية، وتداعيات وصول الإسلاميين إلى السلطة، ينعكس بصورة مباشرة على مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي، كون حركة المقاومة الإسلامية "حماس" هي أحد أهم أدوات الصراع، بل هي اللاعب الأكثر أهمية إلى جانب حركة فتح في الشارع الفلسطيني، ولما كانت حركة حماس تنتمي بفكرها إلى تنظيم حركة الإخوان المسلمين، وأنها ترتبط بعلاقاتٍ وثيقة مع غيرها من الحركات الإسلامية الأخرى، التي لا تبدي تشدداً تجاه الاعتراف بإسرائيل، والتي لا تنكر قانونية وشرعية الاتفاقيات الموقعة معها، الأمر الذي من شأنه أن يجعل الانفتاح على حماس ضرورة آنية ملحة جداً، كونها الحركة التي فازت في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، وهي التي تدير قطاع غزة، ولها نفوذ وتمثيل كبير في الضفة الغربية، وقد تفوز مرة أخرى في الانتخابات التشريعية القادمة، مما يجعل من اللقاء معها ضرورة، إذ يرون أنها ستمضي على نهج القوى الإسلامية التي وصلت إلى البرلمانات العربية، والتي أعطت إشارات إيجابية تجاه علاقاتها المستقبلية بدولة إسرائيل، وهذا يتطلب من دول أوروبا المزيد من الجهد والانفتاح على الحركة، وفتح أبواب جديدة لها، وعدم دفعها من خلال الحصار ووضعها على قوائم الإرهاب نحو خياراتٍ أخرى، قد لا يكون لها بديلاً عنها. لكن الحكومة الألمانية تدرك أن حركة حماس تختلف في عمقها وتركيبتها الداخلية، وخصوصيتها التنظيمية عن حركة الإخوان المسلمين التي إليها تنتمي، وقد رصدت الاختلافات في وجهات النظر التي حملها الإعلام الخارجي مؤخراً عن تباينات في وجهات نظر قيادة حركة حماس في الداخل والخارج، ولكن هذا الاختلاف لا يمنعها من التمسك بضرورة وأهمية الانفتاح عليها في ظل التغيرات الحادثة في وجهات النظر، وفي ظل الصعود السياسي للقوى الإسلامية ، وفي ظل المتغيرات الحادثة في القواعد والمقار القيادية للحركة بعد قرار الحركة الخروج من سوريا والانتقال إلى ساحاتٍ عربية يبدو أنها أكثر اعتدالاً من دمشق، إذ تعتقد ألمانيا أن الظروف السياسية المستجدة في المنطقة قد أنضجت في حركة حماس معسكرين متباينين سياسياً، ومختلفين تنظيمياً، وهما معسكر الحمائم الذي يجب على الغرب أن ينفتح عليه، وأن يمنحه الفرصة للتعبير عن نفسه، ومعسكر الصقور الذي يجب على الغرب أن يضعفه من خلال المزيد من الانفتاح الإيجابي والتعاون الميداني في المناطق الفلسطينية مع معسكر الاعتدال الذي يملك فرصاً كبيرة للقوة والسيطرة. ألمانيا دولةٌ قوية وفاعلة، ولها رأي وتأثير كبير في أوروبا، وتلعب دوراً مهماً في رسم السياسات الغربية تجاه منطقة الشرق الأوسط، وهي لا تقل أهمية وفاعلية عن بريطانيا وفرنسا، بل إنها واحدة من أهم الدول الأوروبية التي ترى لمهمتها في الشرق الأوسط أولوية كبيرة، فلا ينبغي لأحدٍ أن يهمل أو يتجاوز دورها، مع التأكيد على أن الموقف الحكومي الألماني الرسمي يقول بوضوح "نحن مع إسرائيل"، ونحن نحب إسرائيل، ذلك أن اللوبي الصهيوني في ألمانيا لوبي كبير وفاعل ومتغلغل، وناشط ومقتحم لا يستحي، وهو جاهز دوماً لأن يهدد بالماضي، وأن يلوح بالتاريخ، ولكن الشعب الألماني الذي لا يبتعد ولا يختلف كثيراً عن موقف حكومته، يستطيع أن يرصد ازدواجية معايير بلاده ودول أوروبا في الملف الفلسطيني، ويرى أن على حكومة بلاده أن تنصف الشعب الفلسطيني، وأن تيسر له حصوله على حقوقه المشروعة، وإلا فإن على العالم كله أن يدفع ثمن إهماله وتناقض قيمه ومعاييره، وعلى العرب والفلسطينيين ألا يقللوا من جهودهم الشعبية الفردية والجماعية في تغيير المزاج العام في أوروبا. دمشق في 18/3/2012