كان النظام التونسيّ السابق يشتري الإعلاميّين ليمتدحوا أفعاله و أقواله ليلا نهارا، و لكنّ النظام الجديد يرغب في بيعهم نظرا لانزعاجه من طريقة عملهم. و لعلّ القصد من ذلك تحريرهم نهائيّا بعد أن نجح السابقون في إخضاعهم إلى حدّ استعبادهم بقوّة المال و العصا. و هي صورة مستهجنة عبّر عنها الشاعر أبو الطيب المتنبّي في قوله: لا تشتر العبد إلاّ والعصا معه... و قد قيل هذا المعنى في سياق هجاء يتنافى و مبادئ حقوق الإنسان لذلك نعارضه بما جاء في تراثنا من حكم أخرى و منها قول عمر بن الخطاب: "متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا". br / في خضمّ هذا الجدل بين الحريّة و نقيضها، ارتفعت أصوات منادية بخصخصة الإعلام العموميّ في تونس و تطوّرت إلى حملة إشهاريّة و لعلّها تشهيريّة كلّ حسب رؤيته. إشهار الفكرة جاء من نوّاب النهضة و وزرائها، فهم يرون الإعلام العموميّ "غير نزيه و يعمل ضد الثورة". بل إنّ القناة الوطنيّة تحوّلت في رأي النائب عامر العريض إلى بوق سياسي يخدم المعارضة، وجانبت نشرة أخبارها قواعد النزاهة و الحرفيّة في نقلها للأحداث لذلك يشعر المواطن أنّ "التلفزة التونسية تهاجم ثورته وتعترض على إرادته". حسب النائب الذي يؤكّد أن التلفزيون التونسيّ باع نفسه من الشبّاك و الأفضل أن يباع الآن من الباب.br / لكنّ المدافعين عن المرفق العموميّ، ردّوا بحملة تشهيريّة ، و اعتبروا مقترحات النهضة نتاجا لعدم قدرة الحكومة "على إخضاع الإعلام وإعادته لبيت الطاعة". أمّا الهيئة العليا لإصلاح الإعلام فتحدّثت عن خطأ جديد في تعامل الحكومة مع ملفّ حسّاس و استغربت فكرة الخصخصة التي لا مثيل لها في البلدان الديمقراطيّة، دون أن تنكر وجود بعض الإخلالات من جانب الصحفيّين. و تبقى فكرة البيع أو الخصخصة جديرة بالنقاش، و هي ليست جديدة فقد طرحت في مصر منذ أسابيع في مؤتمر نظّمته نقابة الإعلاميين و معهد الأهرام الإقليمي للصحافة بالتعاون مع البي بي سي تحت عنوان "رؤى مستقبلية للإعلام المرئي والمسموع". و لئن أبدى الإعلاميّون رفضهم الكامل لبيع وسائل الإعلام المملوكة للدولة والشعب، فإنّهم اتّفقوا على ضرورة إصلاح قطاعهم و الضغط على الأموال المهدورة فيه تبذيرا أو فسادا. كما تدارسوا واقعهم و عبّروا عن وعيهم بأهمية تحوّل الإعلام الرسمي إلي إعلام يخدم المواطنين مستأنسين بالتجارب الرائدة في البلدان المتقدّمة من خلال استماعهم إلى خبراء بريطانيين من هيئة البي بي سي. و ناقش المؤتمرون طويلا مبدأ حرية الصحافة، و برزت أفكار جديدة في اتّجاه تدقيق المفاهيم منها ما جاء على لسان الإعلاميّ المعروف حسين عبد الغني الذي رأى أنّ المقصود بحريّة الصحافة ليس حرية الصحفي والإعلامي، و إنّما "الحريّة التي تعود علي المواطن في الحصول علي المعلومات". و عموما، يمكن للتونسيّين أن يستفيدوا من نتائج هذا المؤتمر و غيره من التجارب الرائدة فيعجّلوا بوصف الحلول الكفيلة بإخراج إعلامنا من وضعه المتأزّم بطريقة مشرّفة لا تستثنى منها محاسبة الصحفيّين الذين باعوا ذممهم خدمة للنظام السابق مقابل مكاسب ماديّة و معنويّة مسجّلة في ملفّات وكالة الاتصال الخارجي. br / و غاية النهضويّين من حملتهم قد لا تتعدّى - كما يبدو لنا- كونها بالون اختبار، فلهجة التهديد تبعتها تصريحات مطمئنة لعامر العريض قال فيها "إنّ خصخصة الإعلام العمومي ليس خيارنا الأول، و نأمل أن تكون هناك حركة إصلاح من الداخل، إذا أصلح الإعلام علاقته بالشعب فلا نحتاج إلى خصخصة".br / تصريح فيه بعض التراجع، و لكنّه يلقي بالكرة في ملعب الإعلاميّين و يطالبهم بأن يحسنوا اللعب و لا يخالفوا القواعد وإلاّ سيثبتون بعكس ذلك أنّهم باعوا المباراة لطرف دفع لهم. فالتجارة أنواع منها العلنيّ النظيف و منها السريّ المشبوه، والجمهور فارس كما يقال، و هو قادر على التمييز بين الحقّ و الباطل. باب نت