بعد الصدمة التي دفعت المصريين بمئات الالاف الى ميدان التحرير و ميادين اخرى، حاول الكثيرون ان يفسروا القرار باستقلال القضاء المصري مستشهدين في ذلك بما عرف به هذا القضاء من شجاعة في اتخاذ عديد القرارات التاريخية التي تحدى بها نظام مبارك ابان حكمه. المشكلة ان هذه القرارات الشجاعة لا يمكنها ان تخفي ما تورط فيه القضاء المصري طوال عقود من اعتداء منهجي على الحريات الخاصة و العامة. و عليه فان مقولة استقلالية القضاء المصري لا يمكن ان تكون الا نسبية الى حد بعيد. ليس هذا المقال مجالا لتفصيل القول في الاخلالات الكبيرة التي عرفتها محاكمة الرئيس مبارك و اعوانه ، و لكن لا خلاف في ان هذا الحكم يحمل بصمة سعي الجيش المصري الى تحقيق هدف مزدوج: و هو الحيلولة، من جهة، دون التفكيك الكامل لبنية النظام السابق، و العمل، من جهة اخرى، على خلق مناخ قد يؤدي الى ايقاف المسار السياسي الحالي المتمثل في جولة الاعادة للانتخابات الرئاسية. و عليه، فلا يمكن ان تعني الاستقلالية ان يضرب القاضي محمد رفعت (الذي سيخرج الى التقاعد في نهاية الشهر، و هذه مصادفة غير بريئة) عرض الحائط بكل التطلعات والمطالب المشروعة للشعب المصري و ان لا ينصت لنبض مجتمع ثائر يريد القصاص العادل من مجرمي الامس القريب حتى يطمئن على ثورته و تضحيات المئات من ابناءه بأرواحهم من اجل الحرية و الديمقراطية و العدالة. و يقدم لنا المثال التونسي تأكيدا اخر لهذا الاستنتاج. فالارتباك الظاهر في ادارة ملف "تطهير القضاء" من قبل الحكومات المتعاقبة منذ هروب الديكتاتور بن علي ، يؤكد الحاجة الى وجود تأطير اجتماعي و سياسي و ثقافي للقضاء بعد الثورة ... ذلك انه من الصعب اقناع المواطن التونسي العادي بان القضاة الذين عرف فسادهم الواسع (سواء تعلق ذلك بالقضايا السياسية او قضايا الحق العام) بإمكانهم الادعاء انهم حققوا استقلاليتهم بمجرد سقوط هرم السلطة. ان هذه الاعتبارات تدفعني الى القول بكل يقين بان لا استقلالية للقضاء في مجتمع ما بعد الثورة ما لم تتحقق عدالة انتقالية حقيقية و لم يتم تحقيق الحد اللازم من "التطهير" في المؤسسات الرئيسية التي كانت تدعم الديكتاتورية ( القضاء، الاعلام، الامن و الادارة). فحتى في اكبر الديمقراطيات الغربية، يتحرك القضاء ضمن منظومة اجتماعية و سياسية و ثقافية محددة لا بد عليه من العمل على احترامها و اخذها بعين الاعتبار في ما يصدره من قرارات خاصة عندما يتعلق الامر بقضايا مصيرية بالنسبة للمجتمع. ف"الاستقلالية" التي تؤدي الى طي صفحة الماضي الاليمة على حساب مطالب الثورة و تطلعاتها ليست استقلالية لا ممكنة و لا مرغوبة. جينيف في 2 جوان 2012 محامي و ناشط سياسي و حقوقي*