كان يوم 5 ديسمبر 1980 يوما فارقا في تاريخ حركة الاتجاه الإسلامي، التي اتخذت هذا الاسم رسميا في المؤتمر التأسيسي المنعقد سنة 1979 بعد أن كان يُطلق عليها اسم الجماعة الإسلامية تشابها بالجماعة الإسلامية في باكستان، لما بين الحركتين من قواسم دعوية مشتركة. إذ في فجر هذا اليوم وفي تونس العاصمة ألقى عون أمن القبض على أحد أبرز قيادات الحركة لمّا اشتبه في أمر رجل ماسك بحقيبة دبلوماسية يتجول لوحده في ساعة متأخرة من الليل، وكانت تلك الحقيبة تحتوي على وثائق تنظيمية تخص هيكلة الحركة وقيادتها ومجلسها الشوري وأسماء وعناوين وكشوفات مالية... لقد شكّل هذا الانكشاف منعرجا خطيرا في مسار الحركة، وبداية ابتلاء عظيم ما شهدت تونس مثله في تاريخها المعاصر.. هذا الانكشاف رجّ اختيارات الحركة وأربك القيادة، هذه القيادة التي خرجت لتوّها من أزمة داخلية، لم تفلح فيها الوجوه التاريخية في إدارة الحوار الداخلي والاختلاف الحاصل حول عضوية الحركة في التنظيم الدولي للإخوان، وقضايا تنظيمية أخرى، ومن ثم الحفاظ على التناغم الفكري بين أفرادها، فكان أوّل شروخ هذه الأزمة التي أساءت القيادة إدارتها، أن انسحب أهم رجل قيادي مؤسّس وفاعل بالفكر والتربية والتكوين، وهو الرجل الذي ربط تنظيم الحركة الإسلامية في تونس بالتنظيم الدولي للإخوان في بيعتين، واحدة لمرشد الإخوان حسن الهضيبي وأخرى لعمر التلمساني، بعد أن رفض العضوية الدولية لخصوصية منطقة المغرب العربي، متهما الإخوان بالهيمنة والاستبداد، وثاني شروخها أن انسحب أعضاء عديدون من تنظيم الحركة، منهم من لزم بيته، ومنهم من تشكل في تيار فكري وثقافي عُرف فيما بعد باليسار الإسلامي... فقررت القيادة بعد هذا الانكشاف الدعوة إلى مؤتمر استثنائي لإقرار إعلان الحركة كحزب سياسي، وتقديم مطلب للتأشيرة في الغرض، وانعقد المؤتمر بسوسة سنة 1981، وكان الرأي السائد عند أغلب المؤتمرين أن الحركة بصفتها الدعوية وبعقلية أعضائها وتربيتهم الإسلامية المحافظة، وبما دأبوا عليه من دعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ليس من شأنها الاشتغال بالسياسة، فكل هم أبناء العمل الإسلامي على تلك الأيام هو تزكية أنفسهم بالتقرب إلى الله بالطاعات وإعمار المساجد وفعل الخيرات وحفظ كتاب الله، والسعي لتغيير ما بأنفس الناس من شر ودعوتهم إلى الخير وإلى هدى الإسلام الحنيف، وإعمار القلوب بمحبة الله ومحبة الناس، فإذا صلح المجتمع على هذا صلحت قيادته، وتلك هي ميزة الاتجاه الإسلامي، أبناؤه دعاة لا قضاة، يؤمنون بالتغيير الأفقي، ويعملون في صفوف الجماهير اجتماعيا وثقافيا على قاعدة لا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم، وعلى هذا رأى الكثير من الحاضرين أن دعوة الخير لا تحتاج لترخيص من أي كان للقيام بها، وأما العمل السياسي ففيه خلط بين المقدّس والمدنس، ولا حاجة لهم بتدنيس معتقداتهم بألاعيب السياسة، من حيث لا دُربة ولا خبرة لهم في المجال السياسي، وشأنهم هو الدعوة إلى الخير والتنفير من الشر لا غير، وقناعتهم في الحكم كيف ما تكونوا يُولّى عليكم، أما القيادة وتحت ضغط الانكشاف وخطر التهديد بالمحاكمة، فقد أرادت إقناع المؤتمرين بضرورة الإعلان كإجراء إستراتيجي وليس تكتيكي، بعد أن عجزت عن إقناعهم بأن الإعلان عن خطة تكتيكية للتفويت على النظام ضرب الحركة كتنظيم سري، وبالتالي عدم تمكينه من ذريعة كافية لوضع الحركة خارج القانون وإصدار أحكام قاسية... وأذكر على ذلك العهد أن الحركة الاخوانية في الجزائر لم يكن قادتها يرغبون في أن تشهد منطقة المغرب العربي تحوّل حركة إسلامية إلى حزب سياسي، لما يشكله ذلك من تهديد مباشر بالمواجهة مع الأنظمة القائمة... وتحوّلت حركة الإتجاه الإسلامي من حركة ربّانية دعويّة مجالها المساجد والأسواق والجامعات، إلى حزب سياسي يحاول أعضاؤه المزج والتوفيق بين الدعوة والسياسة، ولِم لا حتى الطموح للحكم... وكان ما كان من مواجهات واعتقالات وسجن ونفي وإعدامات... لقد فُرضت المواجهة على أبناء الحركة مع آلة القمع الرهيبة ولم يسعوا إليها، بل لم يكونوا مستعدين لها، فلما أرادوا الدفاع عن أنفسهم ارتبكوا وارتكبوا أخطاء ما زال التاريخ ينتظر من أجهزة الحركة تقييما موضوعيا لها ومراجعة علنية، وخاصة في ما شهدته الحركة بعد انقلاب 7 نوفمبر من مواقف وتصريحات وتغيير اسم الحركة تحت رغبة المخلوع ليصبح حركة النهضة، كما أن التاريخ لا يزال يبحث عن اعترافات صريحة من القيادة التاريخية بفشلها وعدم قدرتها على حسن إدارة الحوارات الداخلية، وعلى أدائها السيئ في المواجهات الخارجية التي ذهب ضحيتها عشرات الشهداء وعشرات الآلاف من المساجين والمرضى والمفقودين... وما لا يعرفه الكثير أن هذه القيادة التاريخية متهمة عند الإطارات العليا للحركة بسوء القيادة وتقدير الأمور وضعف التدبير، وقد بان ذلك جليّا في المؤتمر الانتخابي المنعقد بسليمان سنة 1984، حيث لم تحظ هذه القيادة بالإجماع ووُجّه لها نقد لاذع، وكان ترتيبها متخلفا في الدورة الأولى من الانتخابات... لقد أنقذت ثورة 14 جانفي الحركة من مزيد من التهالك، ولكنها أوقعت قياداتها في مزيد من الأخطاء والتهافت والارتباك، فالاحتكاك بالحكم وسيادة منطق الذرائع في السياسة الغاية تبرر الوسيلة حيث أصبحت الغاية مسك السلطة ولو بأجندة غير إسلامية وبمراقبة قوى عالمية مهيمنة، أسقط هذه القيادة في التجاذبات، وأبعدها عن البناء الفكري والعقائدي والثقافي والأخلاقي الذي تميّزت به الزمرة الأولى ممن شهدوا تأسيس الإتجاه الإسلامي، حيث أنشأت هذه القيادة بعيدا عن قواعدها جملة من التناقضات سمّوها مراجعات فكرية ومنهجية سياسية جديدة، تميّزت بخلط مشين بين شعارات إسلامية ومقولات قومية عروبية وقيم لائكية وعلمانية، وهرولة غير مبررة لإرضاء الخصوم، وتنازلات متكررة، وتضحيات (على حد قول بعضهم) بالقيم والثوابت، ولا يزالون يروّجون عند أتباعهم بأن ما تؤسّس له القيادة هو إلهام وحكمة لم يؤتها أحد من قبلهم... إن من بقي على أدبيات الإتجاه الإسلامي اليوم، عندما يبحث ويدقق النظر في الوضع السلوكي والتربوي والعقائدي والفكري عند حاملي بطاقة انخراط في حزب النهضة، لا يستطيع أن يحدّد مرجعية فكرية أو عقائدية لهذه الحركة، بقدر ما يلحظ السلوك الذرائعي والمصلحي في علاقة الأعضاء بالحزب وبالحكومة، مما يؤسس لانتماء حزبي عرضي تتلاشى فيه مع الأيام كل الملامح السلوكية والعقائدية التي تميّز الانتماء الإسلامي... فماذا بقي من الإتجاه الإسلامي ومرجعيته العقدية في حركة النهضة؟ الصباح التونسية 13 جوان 2012