بينما كانت إدارة المحافظين الجدد بزعامة بوش الابن ونائبه ديك تشيني في واشنطن وتابعهما توني بلير في لندن تدق طبول الحرب على العراق، كان هانز بليكس كبير مفتشي أسلحة الدمار الشامل الدوليين يسابق الزمن ويجدف ضد التيار للحصول على مزيد من الوقت لاستكمال مهمته. وثبت لاحقا أن بليكس وفريقه لم يقصروا في قلب كل حجر عراقي بحثا عن أسلحة لم تكن موجودة. وقيل في ذلك عن حق أن أمر التدقيق بلغ بهم حد إخضاع ظهور بعض الحمير والبغال لفحوص معينة، بغية التأكد من أنها لم تنقل مواد تخدم المشروع النووي العراقي المفترض! في الوقت ذاته، كانت بعض أهم مراكز البحوث والاستشارات والعصف الفكري على جانبي الأطلسي، تنصح بالتروي في اتخاذ قرار الحرب ليس فقط لشكوكها في صحة وقانونية ذلك القرار، وإنما أيضا لتوقعها فشل إمكانية إدارة عراق ما بعد الحرب بالشكل المناسب لدعاوى الغزاة حول بسط الديمقراطية ومراعاة حقوق الإنسان بقوة السلاح. كما أن بعض الحلفاء كفرنسا وشركاء مجلس الأمن كالصين وروسيا استنكفوا عن مجاراة المساعي الأنجلو أميركية غير الحميدة في اتجاه الحرب، مؤثرين إشباع البدائل الأخرى بحثا وتمحيصا وفي طليعتها مهمة بليكس. مع ذلك كله، يدعي بوش الابن في مذكراته بأن «أحدا لم يغضب أكثر مني عندما لم أجد أسلحة دمار شامل في العراق، وكان ينتابني شعور بالغثيان كلما فكرت بالأمر وما أزال. . .». لم يصدر بعد النص الكامل لهذه المذكرات التي ستحمل عنوان «مرتكزات القرار»، لكن ما تسرب منها هو ما يوجب الغثيان بالنظر إلى حمولتها المتوقعة من الكذب ومحاولة استغباء ذاكرة العالم حول حدث مازالت تفاعلاته وتداعياته ساخنة تلهب الوجدان. فعلة بوش الابن تستدعي التأمل في الفارق بينها وبين تصرف بوش الأب قبل عشرين عاما، الذي ذهب بدوره إلى ما عرف بحرب «تحرير الكويت» محفوفا بأهداف أكثر وضوحا وبغطاء وحصانة دولية أوسع، ضمنت له تأييدا ومشاركة أكثر من ثلاثين دولة. وبالقدر ذاته من التلفيق والتنطع حول سياساته الخارجية، يسعى بوش الابن إلى التنصل من مسؤوليته عن سياسات داخلية انحدرت بالولاياتالمتحدة إلى مهاوي أزمة اقتصادية ما تزال توابعها قيد التفاعل في جهات الدنيا الأربع فهو ينكر أنه أهدر فائض الميزانية الذي تركه له سلفه بيل كلينتون عندما تولى الرئاسة عام 2001. ولو كان الرجل منصفا وموضوعيا لأدرك أو فطن إلى أن غزواته العسكرية وطموحاته الإمبراطورية المسلحة، ما كان لها أن تمر دون أن تترك توابع مريرة ومكلفة على الداخل الأميركي. هذه واحدة من سنن صعود القوى العظمى وأفولها. سيقال ذات حين بأن عهد بوش الابن شهد سابقة تساؤل الأميركيين عن «لم إذا يكرهوننا؟» فالشاهد أن للولايات المتحدة تاريخا موشى بالحروب والجولات والتدخلات العسكرية الخارجية، لكن هذا السؤال لم يطرق العقل الجمعي للأميركيين بإلحاح مثلما حدث في هذا العهد. لا نعرف ما إن كان الرجل سيتعرض إلى هذا الجانب؛ لكن ما تيسر من مذكراته يوحي بأنه ليس بوارد مصارحة الذات، ناهيك عن الآخرين المعنيين، بشأن دوره ورهطه من جماعة المحافظين في إثارة هذه الكراهية. في كل حال، فان وثائق الحرب على العراق، التي راحت تتبدى تباعا، وآخرها تسريبات موقع ويكيليكس، تؤكد تورط الرئيس الأميركي السابق في تضليل شعبه وكونجرسه والناس أجمعين حول حرب لا مبرر قانونيا أو أخلاقيا لها. ونحسب أن استذكار تفصيلات هذا التضليل بات أمرا مثيرا للملل. الأكثر إثارة من ذلك، أن يبدو بوش الابن في مذكراته كمن يكذب نفسه، غافلا عن القول المأثور «إن كنت كذوبا فكن ذكورا» فهو يستطرد مثلا إلى أن أيهود أولمرت رئيس وزراء إسرائيل السابق طلب منه ذات حين من 2007 قصف ما يظن أنها منشآت نووية في سوريا، ولكنه رفض تلك الخطوة باعتبارها تعديا على دولة ذات سيادة بدون سابق إنذار، مفضلا التروي إلى حين تقييم وكالة الاستخبارات الأميركية التي شككت في صحة معلومات أولمرت. غير أن إسرائيل قصفت الموقع السوري بالفعل في سبتمبر 2007 وقد ادعى الرئيس الأميركي بأن ذلك التصرف لم ينل موافقته، وهذا شيء مستحيل. الأمر وما فيه أن بوش لجأ إلى سياسة غض الطرف عن جناية كان بوسعه ردع إسرائيل عن اقترافها. ذلك بأن مقام إسرائيل لدى الولاياتالمتحدة لا يسمح لها بإتيان عمل عسكري خارج محيطها (وربما داخله أيضا) بلا ضوء أميركي أخضر. ثم ان ادعاء بوش الابن بأنه لا يقدم على مهاجمة دولة ذات سيادة بلا مبرر يتنافى بالمطلق وغزوه العراق رغما عن إرادة «المجتمع الدولي» برمته تقريبا. والحال كذلك، نحن مع كتاب بوش العتيد لسنا بصدد مذكرات مصارحة أو مصالحة مع النفس تستفيد منها الأجيال، وإنما هو كتاب علاقات عامة يراد به تبييض تاريخ رجل تبوأ أعلى مراتب المسؤولية التي لم يكن جديرا بها. كأن المذكرات لا تكتب فقط لإعلان الحقائق وإنما تتخذ أحيانا وسيلة لتبرئة النفس وتشويه ذاكرات الناس. وان كان بوش قد أخذ بمنهجية لي الوقائع، فقد فعلها شريك له من قبل يدعى توني بلير. الاسلام اليوم الاحد 08 ذو الحجة 1431 الموافق 14 نوفمبر 2010