لسنا في حاجة للتوقف أمام الحالة الدموية التي تُجرى في ظلها الانتخابات المصرية خلافاً لمعظم الانتخابات في العالم.. لكني أتوقف أمام حالات أشد بؤساً تلبّد أجواء تلك الانتخابات، وتضيف مزيداً من أدوات القوة الغاشمة في يد السلطة؛ لتشكل المشهد كما تشاء وتخرجه وفق ما تريد. أولاً: أبرز تلك الحالات: ذلك الوضع الدولي القانع بإجراء الانتخابات على الشكل الذي تريده «السلطة»، بعد أن تأكد أن النزاهة والشفافية والتحضر في التعامل مع المتنافسين سيأتي بالإسلاميين «بعبع» الصهاينة والغرب والمنظومة العلمانية المتطرفة في المنطقة، فالوضع الدولي الذي كان ضاغطاً بشدة عام 2005م لإجرائها في نزاهة غائب اليوم تماماً، وكأن هناك شبه قناعة غربية بضرورة حصار المعارضة الإسلامية، ومنعها من الحصول على أي حيّز يقوي نفوذها ويمكنها من حقها في تمثيل الجماهير. دعْكَ من الفرقعات الإعلامية التي تخرج من بعض مؤسسات الإدارة الأمريكية، فهي لا تعدو أن تكون أشبه ب«ممازحة» الصديق مع صديقه، ولذلك فإن النظام المصري يُجري الانتخابات وهو مستريح البال تماماً بعد ما نحّى الإشراف القضائي الذي فضح تزوير انتخابات عام 2005م، وأمن العملية الانتخابية تماماًًً لتخرج نتائجها بأكبر قدر من إقصاء الإسلاميين بعيداً عن قبة البرلمان. فمن نافلة القول: إن وجود أي تيار إسلامي قريب من سدة الحكم أو من ساحة السياسة واتخاذ القرار أمر يقلق الغرب على مصالحه، ويصيب الصهاينة بالهستيريا خوفاً على وجودهم ومستقبل كيانهم.. ويهيّج الخلايا العلمانية النائمة في أحضان السلطة حقداً وكمداً ونكداً.. وإلا، فقل لي: كيف ستكون حال العلاقات المصرية الصهيونية إذا حصل الإخوان المسلمون على ثلث مقاعد البرلمان في الانتخابات الحالية مثلاً؟ وكيف ستكون حال العلاقات الأمريكية والأوروبية مع مصر حينئذ؟ الإجابة معروفة؛ وهي متمثلة فيما جرى - ويجري - من حملات تأديب وحصار وحرب إبادة للشعب الفلسطيني؛ عقاباً له على انتخاب حركة «حماس»، و«جريمتها» أنها إسلامية من مدرسة الإخوان! ثانياًًً: هذه الانتخابات تُجرى - كغيرها في المنطقة - في أجواء دولية غير طبيعية، بعد أكثر من تسعة أعوام على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والحقيقة التي لا يماري فيها أحد هي أن تلك الأحداث ولّدت حملة دولية شوهت الإسلام، ووضعت المسلمين خلف قضبان من الاتهامات بالإرهاب والعنف يصعب عليهم الفكاك منها، ولم يترك المروجون لتلك الحملة ثغرة يمكن تشويه الإسلام من خلالها إلا ولجوها واستنفروا في سبيل ذلك كل أدواتهم وآلاتهم وعملائهم، وليس خافياً أن نذر التخويف والتهديد امتدت إلى أنظمة الحكم في بلاد إسلامية إذا لم تتخذ الإجراءات اللازمة لقهر الإسلاميين وتحجيم الإسلام في الحياة السياسية والاقتصادية والمناهج التعليمية، وتعد الانتخابات بكل درجاتها فرصة مواتية لتحقيق ذلك، فبدلاً من أن تكون آلية حضارية لكشف حقيقة القبول الشعبي للقوى الموجودة على الساحة، يتم تحويلها إلى «محرقة» لمحاولة إسقاط الإسلاميين فيها، والتخلص منهم نهائياً، والادعاء عبر مسرحيات إعلامية معروفة بأن الشعب لفظهم ورفضهم! ثالثاً: إن الخلايا العلمانية النائمة في أحضان السلطة تجد في هذه الانتخابات فرصتها الذهبية لتمكين وجودها وتمتين علاقتها، وبذل كل ما لديها من دهاء لإثبات أهمية دورها في خدمة السلطة، ولقد وقعت بعض الأنظمة الحاكمة - أو أُوقعت - في فخ معادلة نكدة، وهي أن المزيد من التدين في المجتمعات يعني المزيد من تناقص عمرها الافتراضي على كراسي الحكم، فكان لابد من محاصرة ذلك بشتى السبل والوسائل، وبدهاء يخفي الخصومة للدين أو للتدين. وانعقدت شراكة بين الطرفين صاحبي المصلحة؛ التيار العلماني بمشروعه التغريبي والذي يمثل الطابور الخامس للمشروع الغربي كله، وبعض الأنظمة بمشروعها الجاثم على صدور شعوبها لمحاصرة الحركات الإسلامية وشلّ حركتها وصرف الجماهير عنها. نحن أمام «حالة» مزروعة في بلادنا منذ عهد المعلم «يعقوب» عميل الحملة الفرنسية وسمسارها الأول.. «حالة» تصرُّ على أن رسالتها هي حظر الإسلام في بلاده وعلى أبنائه حتى يظل المشروع الغربي التغريبي قائماً، ويتم تنفيذ ذلك عبر منظومة من القانونيين والإعلاميين والسياسيين لتخرج المسرحية في أبهى زينتها.. لكن دوام الحال من المحال! (*) كاتب مصري- مدير تحرير مجلة المجتمع الكويتية