خبير ومحلل عسكري منذ بدء الثورة الشعبية كما سماها التونسيون لعب الجيش الوطني التونسي دورا لافتا وملاذا آمنا للمواطنين الذين لجأوا اليه من البطش، هذه الثورة التي انطلقت شرارتها بموجة عارمة من الإحتجاجات في 18 ديسمبر من مدينة سيدي بوزيد التي تقع جنوب العاصمة تونس وتبعد عنها 265 كم، بعد ان أقدم بائع متجول باحراق نفسه احتجاجا على تعرضه للإهانة من قبل شرطية حاولت منعه من بيع منتوجاته من الخضار دون ترخيص من البلدية، اضافة الى رفض قبول شكواه ضد الشرطية من قبل المحافظة، تصاعدت على أثرها حدة الإحتجاجات بعد مقتل شاب في مدينة بوزيان القريبة وتوالت موجات أخرى من المظاهرات وتوسعت رقعتها ووصلت العاصمة وارتفعت أرقام الشهداء، واستمرت الإحتجاجات والمظاهرات مدة شهر تحت شعار (بوعلي يا جبان تونس تونس لاتهان) مما أدت الى هرب رئيسها زين العابدين بن علي الى المملكة العربية السعودية والتي أيدت مساعي الشعب التونسي وكبلت بن علي ووضعت عليه شروطا قبل ان تحط طائرته في مطار جدة. لم تسعف بن علي علاقاته الوطيدة مع الولاياتالمتحدة التي تغنت بشجاعة الشعب التونسي وعلى لسان رئيسها باراك اوباما، وكذلك فعلت فرنسا ورفضت استقباله، و اسرائيل التي تغنت فيه وامتدحته على تعاونه وعلاقته المميزة معها ومع أجهزتها الأمنية وخاصة الموساد.
لم يسعفه أيضا تفصيله للحكم ومقدرات تونس ودستورها على مقاسه ومقاس عائلته وأصهاره وحاشيته عبر 23 سنة من الحكم، كما لم يسعفه توسله واعترافه قبل هروبه وبعد فوات الأوان بأن حاشيته قد ضللته وحالت دون تواصله مع الشعب ومنعته من الإطلاع على حقائق الأمور وهي كما يقول المثل "عذر أقبح من ذنب"، ولو سلمنا جدلا بذلك ولو أن سيرة الرئيس المخلوع كما تم نشرها تقول غير ذلك، فما ذنب الشعب التونسي إذا كان رئيسه مغفل فالقانون لا يحمي المغفلين، ثم ما قيمة هذه الاعترافات وماذا كانت ستقدم لمن قتلوا وسجنوا وعذبوا وجاعوا وهجروا وتشردوا ؟، والمغفلين أيضا هم من نظروا الى هذه الثورة الشعبية العارمة بأنها زوبعة في فنجان وأنها ستنتهي وسيعود الحال كما كان، واستمروا بالعبث بأمن واستقرار البلد خدمة لبقائهم والحفاظ على مكاسبهم وامتيازاتهم، لذلك جاءت المحاكمة لكل هؤلاء بقوة القانون...وعلى يد الشعب مصدر السلطات كلها التشريعية والتنفيذية والقضائية. حال تونس كحال الدول العربية فيها صناع التاريخ والجنود المجهولين المشغولين ببناء أوطانهم وهم الأكثرية لكنهم عراة، وفيها ركاب الأمواج ومزوري التقارير والمترفين على حساب انجازات الغير وهم الأقلية، لكنهم محميون. وهنا نجح الجيش التونسي حيث فشل الرئيس المخلوع في التمييز بينهم والتمسك بالصالح ونبذ الطالح منهم، وجاء انحيازه للأكثرية وهم عامة الشعب وحماة القضية عندما رفض الجيش استخدام العنف والقبضة الحديدية ضد الجماهير الغاضبة بحسب ما اوردته التقارير وما صرح به العديد من التونسيين عبر الفضائيات أو من خلال التعليقات والكتابات على صفحات الشبكة العنكبوتية، وهو ما حقن الدماء وأنقذ البلاد والعباد، وتهيأت الأجواء لعودة الأبناء من المهجر والذين انتظروا هذه اللحظة التاريخية التي تتيح لهم المشاركة في بناء تونس الحرة. كما تهيأت البلد للمشاركة الشعبية للخروج بالحل، حيث يجمع الكثيرون على أهمية تشكيل مجلس تأسيسي من أطياف المجتمع المدني كافة لاعادة صياغة الدستور ومؤسسات منتخبة وإلغاء السابقة منها وبناء مجتمع الحرية والكرامة والعدل على قاعدة منظومة قانونية تقدم الحماية لكل التونسيين وتغيير الوجوه خاصة الذين تورطوا وانهاء دور كل الذين تعاونوا مع العهد البائد. برهن الجيش التونسي أنه ابن شعبه وله وهو درع الوطن وحامي حماه وأنه صمام الأمان، وأنه سليل البطولات والأمجاد التي سجلها خلال حرب الجلاء حيث تم طرد القوات الفرنسية من بنزرت وكان الجلاء العسكري عام 1963 والجلاء الزراعي عام 1964 حيث تم تأميم الأراضي الزراعية التي كانت بعهدة المعمرين الفرنسيين، وأنه يستمد روحه النضالية التي تميز بها الشعب التونسي عبر العصور وهي من المبادىء السامية التي يبني عليها أعماله وهي إضافة خالدة في سجله. كما برهن الشعب التونسي بأنه جزء من أمته العربية الواعدة بإنجاب من يحافظ على موروثها النضالي ويعزز مناعتها ويدعو الى عزتها وكرامتها في كل عصر من العصور. وهو ما يؤكد حقيقة أن العالم العربي في حالة نهضه ولديه مخزون وفير من العطاء . وهي العظة والعبرة.