عاجل/ ليبيا: اشتباكات عنيفة في الزاوية.. وهذه حصيلة الضحايا    ذهاب نهائي ابطال افريقيا.. التشكيلة الاساسية للترجي والاهلي    منوبة: الاحتفاظ بصاحب كشك ومزوّده من أجل بيع حلوى تسبّبت في تسمم 11 تلميذا    قريبا: اقتناء 18 عربة قطار جديدة لشبكة تونس البحرية    مديرو بنوك تونسية يعربون عن استعدادهم للمساهمة في تمويل المبادرات التعليمية في تونس    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    اتحاد الفلاحين: ''أسعار أضاحي العيد تُعتبر معقولة''    الهيئة الإدارية للاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس تدعو إلى عقد مجلس وطني للمنظمة خلال سبتمبر القادم    الوطن القبلي.. صابة الحبوب تقدر ب 685 ألف قنطار    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    تسمّم تلاميذ بالحلوى: الإحتفاظ ببائع فواكه جافّة    افتتاح معرض «تونس الأعماق» للفنان عزالدين البراري...لوحات عن المشاهد والأحياء التونسية والعادات والمناسبات    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    مصر: رفع اسم أبوتريكة من قائمات الإرهاب والمنع من السفر    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    سبيطلة : القبض على مجرمين خطيرين    عاجل : مسيرة للمطالبة بإيجاد حلول نهائية للمهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    قابس: نقل 15 من تلاميذ المدرسة الاعدادية ابن رشد بغنوش بعد شعورهم بالاختناق والإغماء    محيط قرقنة مستقبل المرسى (0 2) قرقنة تغادر و«القناوية» باقتدار    فقدان 23 تونسيا شاركو في عملية ''حرقة ''    كرة اليد: الاصابة تحرم النادي الإفريقي من خدمات ركائز الفريق في مواجهة مكارم المهدية    صفاقس اليوم بيع تذاكر لقاء كأس تونس بين ساقية الداير والبنزرتي    عاجل/ القصرين: توقف الدروس بهذا المعهد بعد طعن موظّف بسكّين امام المؤسسة    تحذير: عواصف شمسية قوية قد تضرب الأرض قريبا    المنستير: إحداث أوّل شركة أهليّة محليّة لتنمية الصناعات التقليدية بالجهة في الساحلين    وزارة الصناعة : ضرورة النهوض بالتكنولوجيات المبتكرة لتنويع المزيج الطاقي    مدير عام الغابات: إستراتيجيتنا متكاملة للتّوقي من الحرائق    بنزرت: جلسة عمل حول الاستعدادات للامتحانات الوطنية بأوتيك    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    الحماية المدنية: 8 وفيّات و 411 مصاب خلال ال 24 ساعة الفارطة    ليبيا: إختفاء نائب بالبرلمان.. والسلطات تحقّق    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    والدان يرميان أبنائهما في الشارع!!    ضمّت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرا في السينما العربية في 2023    طقس اليوم: أمطار و الحرارة تصل إلى 41 درجة    ألمانيا: إجلاء المئات في الجنوب الغربي بسبب الفيضانات (فيديو)    قانون الشيك دون رصيد: رئيس الدولة يتّخذ قرارا هاما    إنقاذ طفل من والدته بعد ان كانت تعتزم تخديره لاستخراج أعضاءه وبيعها!!    جرجيس: العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    مدرب الاهلي المصري: الترجي تطور كثيرا وننتظر مباراة مثيرة في ظل تقارب مستوى الفريقين    الكاف: انطلاق فعاليات الدورة 34 لمهرجان ميو السنوي    منوبة: إصدار بطاقتي إيداع في حق صاحب مجزرة ومساعده من أجل مخالفة التراتيب الصحية    كاس تونس لكرة القدم - نتائج الدفعة الاولى لمباريات الدور ثمن النهائي    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    نحو 20 بالمائة من المصابين بمرض ارتفاع ضغط الدم يمكنهم العلاج دون الحاجة الى أدوية    تضمّنت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرًا في صناعة السينما العربية    معلم تاريخي يتحول إلى وكر للمنحرفين ما القصة ؟    غدا..دخول المتاحف سيكون مجانا..    البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية يدعم انتاج الطاقة الشمسية في تونس    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    التحدي القاتل.. رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً    منها الشيا والبطيخ.. 5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دور أجهزة المخابرات في الحياة السياسية العربية (1 من 2)
نشر في الفجر نيوز يوم 29 - 03 - 2011

ثورة المصريين والتونسيين، التي تمددت في الأسابيع الأخيرة إلى أجهزة الأمن والإستخبارات في كلا البلدين، قد تكون أخطر وأهَم حدث فيهما. لماذا؟ الزميل سعد محيو يشرح السبب في هذه الدراسة التي ننشرها على حلقتين حول "دور أجهزة المخابرات في الحياة السياسية العربية":
في شهر فبراير 2007، وقع حدثان هامان: الأول، انعقاد القمة العربية في الرياض. والثاني، الذي جاء قبل أيام من القمة، كان اجتماع وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس في القاهرة مع مديري أجهزة المخابرات (*) في كلٍ من الأردن ومصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة.

آنذاك، تساءل الكاتب إسنادر العمراني (1): أي هذين الحدثين كان الأكثر أهمية، من حيث تأثيره على مضمون وشكْل وتوجهات سياسات الدول العربية؟ وهل هذا كان تفاعلاً طبيعياً بين عوامل ثلاثة منفصلة: السياسة الخارجية الأمريكية وأنظمة الأمن العربية والقيادات العربية؟ أم أن هذه العوامل الثلاثة تتقاطع في منحى وحيد، حيث السياسة الخارجية الأمريكية تندمج مع السياسة الأمنية العربية؟

هذه الأسئلة تبدو غريبة للوهلة الأولى، إذ كيف يمكن للقاء بين وزيرة أمريكية وقادة أجهزة أمنية، أن يكون أكثر أهمية من قمة للملوك والرؤساء العرب؟ بيد أن أي مقاربة واقعية لطبيعة القوى التي تشكّل حالياً عِماد الأنظمة العربية الراهنة أو على الأقل التي تلعب الدور الرئيسي فيها، تُسلّط الضوء فوراً على الدور المُهيمن الذي باتت تلعبه الأجهزة الأمنية في مُعظم الأقطار العربية في شتّى مجالات الحياة السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية والفكرية، عَلاوة بالطبع على الدور الأمني الداخلي والأمن القومي.

لقد درجت العادة حتى الآونة الأخيرة أن يتناول الباحثون العرب الأزمة السياسية العربية من منظور التحليلات العلمية الخاصة بمفاهيم الشرعية والمقبولية، وبالتالي، الديمقراطية، وهذا أمر بديهي ومطلوب أكاديمياً، لكنه ينحو في غالب الأحيان إلى تناسي أو القفز فوق دراسة القوى أو الطبقات أو الأطراف التي تُمسِك بالسلطة السياسية، والتي من دون التطرّق إليها وإلى طبيعة دورها، يصبح أي حديث عن أسباب انحِباس الإصلاح والتطور والتطوير الديمقراطيين في الوطن العربي، لغزاً أو أحجية لا سبيل لفك طلاسمهما.

الدكتور عبد الإله بلقزيز، الذي يتمتّع بعُمق الرؤى وباع في مجال تتبع مسارات الأنظمة السياسية العربية، نشر حديثاً دراسة بعنوان " أزمة الشرعية في النظام السياسي العربي"(2). هذه الدراسة ألمّت بمعظم جوانب مسألة الشرعية أو أزمتها لدى الأنظمة العربية، لكن، ثمة نقطتيْن شدّدت عليهما الدراسة، قد تُثيران بدورهما أسئلة في غاية الأهمية، هما دور الأديولوجيا في صناعة المقبولية أو الشرعية. والثانية، أزمة الشرعية التي ينتجها "الانسِداد السياسي" الراهن، وِفق تعبير بلقزيز، في المنطقة العربية.

أما الأسئلة فهي:

من هي الطبقة أو الطبقات التي تُمارس هذه الهيمنة الأيديولوجية (وِفق المفهوم الغرامشي) والتي وفّرت للأنظمة أو معظمها في السابق، ما أسمته الورقة "الشرعية النسبية".

هل صحيح أن ثمة انسداداً سياسياً مُتفجّراً في الشرعيات الثلاث التقليدية والثورية و"الحديثة"، كما يقول الباحث؟ وإذا ما كان الأمر كذلك، كيف يُمكن أن نفسّر حالة الاستقرار النِّسبي التي تعيشها معظم الأنظمة منذ أكثر من ثلاثة عقود، على رغم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية العاصفة؟

ثم: ما دور القوى الدولية المُهيْمنة على المنطقة في توفير الدَّعم للأنظمة المَلكية والجمهورية على حدّ سواء، على رغم شعارات الإصلاح والديمقراطية التي تطرحها هذه القوى؟

وأخيراً، هل من سبيل للإصلاح الديمقراطي في المنطقة العربية، ما لم يتحقّق أولاً إصلاح حقيقي لدور القطاع الأمني في المجتمعيْن السياسي والمدني؟

وردت الإشارة إلى النقطة الأولى في أواخر بحث الدكتور بلقزيز (صفحة 18)، حين أوضح أن "الاحتكار غير المسبوق - حدّة وكثافة - للسلطة من قِبل حزب أو فريق أو فرد في المنطقة، غالباً ما تكون سلطته واجهة مدنية للعسكر أو أجهزة الأمن".

هذه المسألة في حاجة إلى المزيد من التركيز والتوضيح والتوسّع، لأنه يبدو أن معظم مفاتيح السلطة في العقود الثلاث الأخيرة، باتت بالفعل في عُهدة أجهزة المخابرات العربية أو بقيادتها، وهذه الأخيرة ما انفكّت منذ ذلك الحين تلعب دوراً يُشبه دور النُّخب التوتاليتارية في أنظمة الحزب الواحد، وهو الدور الذي يستند إلى السيْطرة السياسية على الدولة والجيش من قِبَل نظام حزبي سُلطوي واحد. الجيش هنا يدين بالولاء للنُّخبة التوتاليتارية (إقرأ هنا أجهزة المخابرات)، لأنها تضع موارد اقتصادية كبرى بتصرّفه، فيما تكون السيطرة السياسية للشرطة السرية التي تتغلغل في الجيش وتدير عملية تعيين الضباط أو ترقيتهم أو عزلهم.

علاوة على ذلك، لم تعد الأجهزة الأمنية العربية تقصر نشاطاتها على الأمن أو السيطرة الأمنية، بل باتت تمدد "هيمنتها" من المجتمع السياسي إلى المجتمع المدني: إلى الإعلام والثقافة والسينما والمسرح والنقابات والاقتصاد، وتخلق ما بات يُسمى "ثقافة الأمن" في المجتمعات العربية.

وهنا نستذكر مقولة المفكر الإيطالي غرامشي بأن "أي طبقة ترغب في ممارسة السيطرة في ظل الظروف الحديثة، عليها أن تتحرّك إلى ما هو أبعد من مصالحها الاقتصادية الضيّقة، لتمارس قيادة فكرية وأخلاقية، ولتبرم تحالفات وتسويات مع مختلف القوى، لتشكّل الكتلة التاريخية". هل يعني ذلك أن أجهزة المخابرات، بما تمتلكه من سلطة سياسية وسطوة اقتصادية وهيمنة ثقافية، أصبحت طبقة في ذاتها ولذاتها؟

هذا ما ستحاول هذه الدراسة الإجابة عليه، لكن مع التشديد بأن هدفها ليس تعزيز نظرية المؤامرة عبْر "شيطنة" أجهزة الأمن أو تحميلها وحدها مسؤولية الانسداد السياسي العربي الراهن، بل مناقشة الخيارات والسياسات التي يمكن أن تصوّب عمل هذه الأجهزة ونشاطاتها.

فالأمن في خاتمة المطاف، ليس كلمة رديئة، خاصة حين يرتبط بمفهوم "الأمن الإنساني". وأجهزة الأمن العربية لا يجب بالضرورة أن تبقى سرية في عالَم محظور يعجّ بالهمسات والظلال، لا بل أكثر: الدور الوطني والقومي لهذه الأجهزة المُعزز بالأمن الإنساني، مطلوب أكثر من أي وقت مضى، بسبب ظروف التفتيت والاحتلالات التي تتعرّض إليها مُعظم إن لم يكن كل الأقطار العربية (نماذج العراق واليمن وفلسطين والسودان، والعدّ مستمر)، شريطة أن يتم ذلك في إطار ثقافة أمن ديمقراطية جديدة.

تبقى ملاحظة أخيرة: هذه الدراسة، وبسبب اقتضابها المطلوب، لم تستطع الاستفاضة بالحديث عن دور أجهزة المخابرات في كل أو معظم الدول العربية، إذ أن ذلك كان سيتطلب سلسلة كُتب لا كتيِّباً واحدا، ولذا، تم التركيز على الخطوط العامة لمسألة العلاقة بين الأمن والسياسة في الحياة السياسية العربية، مع اهتمام خاص بدور أجهزة الاستخبارات في مصر والأردن والسعودية، وبالعلاقات الخاصة بين معظم أجهزة الأمن العربية وبين الولايات المتحدة. (*)

من جهة أخرى، سنطبق في هذه الدراسة المصطلحات التي وضعها د. يزيد الضايع، حول استخدام تعبير "جهاز المخابرات" حين يكون هذا الجهاز غير عسكري، و"جهاز الاستخبارات" حين يكون تابعاً للجيش. كما ستتطرق هذه الدراسة إلى: تعريف وتأريخ النظام الأمني في الوطن العربي (انظر العمود المصاحب للمقال على اليسار) وإلى دور الجيش والتوسّع الانفجاري لأجهزة الأمن وإلى سؤال "هل أصبحت أجهزة الأمن "طبقة"؟ وإلى دور أجهزة الأمن في إطار النظام الدولي الحالي وإلى بعض تجارب الإصلاح الأمني: نموذجا اندونيسيا وتشيلي ثم تختتم بخلاصة.
8 فبراير 2011، ميدان التحرير وسط القاهرة
8 فبراير 2011، ميدان التحرير وسط القاهرة (Keystone)
دورالجيش وتوسّع أجهزة الأمن
بعد حِقبة التحرر من الاستعمار، برز الدور الكبير للمؤسسة العسكرية (الجيش)، سواء كقوة تحديثية للدولة والمجتمع، تعمل على تسهيل الاندماج الوطني والتنمية السريعة أو كمجرد ديكتاتورية عسكرية تحكم باسم أو بالمشاركة مع طبقات اجتماعية جديدة وقديمة، كما حدث في معظم أمريكا اللاتينية.

التبرير الذي استند إليه القادة العسكريون في العالم الثالث للاستيلاء على السلطة السياسية، (وقع 200 انقلاب عسكري بين 1960 و1972)، قام على دعامتين إثتين: الأولى، أن النظام السابق خان الأمانة الوطنية والاجتماعية. والثانية، أن الجيش يخدِم الشعب أو الأمة وليس الحكومة أو النظام.

ويجادل هوروفيز بأن الجيش "بطرده الأوغاد" المُمسكين بالسلطة، زعم أنه يؤدّي خِدمة ذات قيمة عُليا للأمة. إنه يُنظّف البلاد من الفساد والطغيان والمصالح الأنانية، وهو بتمزيقه الدساتير وطرد أو حتى قتل الملوك واعتقال أعضاء الحكومة وحل البرلمانات وقمع الأحزاب السياسية وفرض الأحكام العُرفية، كان بذلك يضع حدّاً للديمقراطيات البرلمانية الزّائفة التي استخدمها المتلاعبون للبقاء في السلطة من خلال تزوير الانتخابات والتعدّي على القوانين" (7).

وإلى الفساد والطغيان، أضاف الضباط العرب إلى اللائحة نكبة فلسطين عام 1948، التي احتلت المرتبة الأولى في سلسلة الانقلابات التي دشّنتها سوريا ثم لحقت بها مصر والعديد من الدول العربية الأخرى.

جمال عبد الناصر كان الأوضح في التشديد على هذا "الدور الثوري" والتغييري للمؤسسة العسكرية، حين أعلن أن كل ضابط في الجيش "يُشكّل خلية ثورية في حد ذاته بين جماهير الشعب". بيد أن دور الجيش في الفضاء السياسي العربي شهد تحوّلاً بارزاً في العقود الثلاثة الأخيرة، بفعل التغيّر الذي طرأ على طبيعة التحديات الأمنية التي تواجهها كل بلد عربي. فالصراعات بين الدول انحسرت إلى حدّ كبير وأصبحت نادرة، فيما باتت الصراعات الأهلية شائعة، وهذا أدّى إلى توسّع كبير في أجهزة الأمن العربية على حساب القوات المسلحة.

ثم جاء دخول الإرهاب إلى المعادلة السياسية، ليفاقم كثيراً من هذا التوسّع. فقد تعرضت الأنظمة العربية إلى ضغوط محلية ودولية قوية، كي تطوّر مروحة واسعة من المهارات والقدرات الجديدة التي تشمل تأسيس وتدريب وحدات أمنية خاصة لمكافحة الإرهاب، وقوات تدخل سريع وعمليات استخبار متمددة وتحسين وسائل الاتصالات بين كلٍ من مختلف أجهزة الأمن المحلية والمخابرات الخارجية والسيطرة على دفق الأموال ومراقبة نشاطات كل الجمعيات الخيرية. (8). وبالتالي، بات الاعتماد التقليدي على البنى القائمة داخل وزارة الداخلية غير كافٍ للرد على التحديات الجديدة.

وفي دول، كالمملكة السعودية، حيث تنتهج المعارضة الأصولية الإسلامية، إستراتيجية استمالة قطاعات قوية من الجيش ودفعها إلى التحرّك ضد النظام، باتت النخب الحاكمة معتمِدة أكثر من أي وقت مضى على أجهزة الأمن المتوسّعة. وهكذا، بلغت موازنة الأجهزة الأمنية السعودية 5،5 بليون دولار في عام 2003، أي نحو ثلث موازنة الدفاع، ثم ازدادت بنسبة 50% عام 2004. أما في عام 2010، فليس من المعروف بعدُ الزيادات التي طرأت على هذه الموازنة، بسبب استمرار طوق السرية التامة حولها، لكن كل المؤشرات تدلّ على أنها شهدت قفزات نوعية مماثلة.

صحيح أن الجيش، سواء أكان محترفاً أو غير مُسيّس، لا يزال يحتفظ بسيطرة قوية على العملية السياسية ولا يزال الحامي النهائي للنظام في العديد من الأقطار العربية، إلا أن أجهزة الأمن رأت دورها وأعدادها تتزايد بشكل هائل، خاصة خلال العقد الماضي، مما زاد العلاقة تعقيداً وتشابكاً بين المؤسسات السياسية والأمنية والعسكرية. وهكذا، بات لقطاع الأمن مدارِسه الخاصة وكلياته الخاصة وتعليمه العالي الخاص والخدمات الاجتماعية التي تعطيه استقلالية ذاتية، تساهم في زرع ثقافة خاصة للأمن تشكّل عقبة أمام الإصلاح.

التغيّر في دور الجيش، من الفعل السياسي المباشر إلى الجلوس خلف الستار، قد شقّ هو الآخر طريقاً خاصاً يستند إلى منحه حيِّزاً من السيطرة على الاقتصاد الوطني. وقد اعتمدت معظم الأنظمة العربية على المزيج التالي من الاستراتيجيات (9):

- تمديد المنافع التجارية والخاصة لسلك الضباط في مقابل الولاء.
- تناغم مصالح الجيش مع مصالح النظام من خلال التعيينات المستندة إلى القرابة أو الانتماء إلى أقليات محددة.
- التحكّم بالجيش عبْر عمليات التطهير والمناقلات والمراقبة الدقيقة، من جانب مختلف الأجهزة الأمنية.
- الحد من نفوذ الجيش في السياسة من خلال منهجية التنويع التي تسعى إلى تعزيز دعم النظام بين مختلف الأقليات والمجموعات الدينية والاقتصادية والاجتماعية.

ونتيجة لهذه الإستراتيجيات، تزعزعت فعالية القوات المسلحة في العديد من الأقطار العربية، كما تراجعت مستويات الاحتراف العسكري، بفعل الانهماك في النشاطات التجارية.

ففي مصر، التي لا تزال تعيش في ظل نظام سياسي بناه نحو ألف ضابط في الجيش عام 1952، تمّ منح القوات المسلحة، التي يبلغ تِعدادها 430 ألف جندي وضابط، السيطرة على قطاعات كبيرة من الاقتصاد، لقاء ولائها للنظام في حلّته الأمنية - السياسية الجديدة. ووفق مصادر رسمية، بلغت عائدات قطاع الانتاج التابع للجيش المصري 6،1 بليون دولار خلال السنوات الأربع الماضية، وهو رقم قياسي. هذا، إضافة إلى أن توافر اليد العاملة الرخيصة من خلال نظام التجنيد العام، وفّر للقوات المسلحة ميزة تفاضلية على القطاع الخاص، عزز توسّعها في إنتاج مروحة واسعة من السِّلع والخدمات المدنية، التي شملت المنتوجات الزراعية والمستشفيات والمؤسسات السياحية والأجهزة الإلكترونية المتطورة والمشاريع المشتركة مع القطاع الخاص.

وكما يلاحظ سبرينغبورغ (10)، فإن الجيش "لديه موارد دخله الخاصة التي لا يسائله فيها أحد ولا هي عُرضة إلى أي ضغط سياسي مرئي"، لكن حتى هذه المعادلة القائمة على مقايَضة اللاتسييس بالمنافع الاقتصادية والتجارية، تتعرض إلى ضغوط شديدة، خاصة في الجمهوريات العربية التي تنتهج سياسة نيولبيرالية جديدة. ففي خِضم العمل لتطوير الاقتصاد وفق هذه السياسة المعتمدة على "إجماع واشنطن"، يصبح دور الجيش في الاقتصاد والقطاع العام عقبة أمام "الإصلاحات الاقتصادية" وتزيد الضغوط من أجل خصخصة مؤسساته، وهذا بدوره سيصُب في صالح الأجهزة الأمنية التي سيتعيّن تعزيز نفوذها لمواجهة أي تمرد أو معارضة من جانب بعض قطاعات وقطع القوات المسلحة.
أجهزة الأمن كطبقة اجتماعية؟
السلطة السياسية إذن، باتت بالفعل في العقود الثلاث الأخيرة، وإلى حد كبير نِسبياً، في عُهدة أجهزة المخابرات العربية أو بقيادتها، وهذه الأخيرة ما انفكت منذ ذلك الحين تلعب دوراً يُشبه دور النخب التوتاليتارية في أنظمة الحزب الواحد، وهو الدور الذي يستند إلى السيطرة السياسية على الدولة والجيش من قِبَل نظام حزبي سلطوي واحد.

الجيش هنا يدين بالولاء للنخبة التوتاليتارية (إقرأ هنا أجهزة المخابرات)، لأنها تضع موارد اقتصادية كبرى بتصرّفه، فيما تكون السيطرة السياسية للأجهزة السرّية التي تتغلغل في الجيش وتدير عملية تعيين الضباط أو ترقيتهم أو عزلهم.

علاوة على ذلك، لم تعد الأجهزة الأمنية تقصر نشاطاتها على الأمن أو السيطرة الأمنية، بل باتت تمدد "هيمنتها" من المجتمع السياسي إلى المجتمع المدني: إلى الإعلام والثقافة والسينما والمسرح والنقابات والاقتصاد، وتخلق ما يسميه أحد الباحثين "ثقافة الأمن" في المجتمعات العربية.

وهنا نستذكر مقولة أنطونيو غرامشي بأن "أي طبقة ترغب في السيطرة في ظل الظروف الحديثة، عليها أن تتحرّك إلى ما هو أبعد من مصالحها الاقتصادية الضيّقة، لتمارس قيادة فكرية وأخلاقية ولتبرم تحالفات وتسويات مع مختلف القوى لتشكّل الكتلة التاريخية".

ويقول أنصار الإصلاح الديمقراطي في الوطن العربي إن "الدور المركزي للشرطة السرية في كل بلد عربي، مع قدراته الخفية والأخطبوطية، أصبح الآن أكبر العوائق في وجه الإصلاح. ففي العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، وفيما كان القادة العسكريون يخمدون ويخنقون الحياة الديمقراطية، أصبحت أجهزة الأمن قانوناً بذاتها" (11). ويقول لبيب قمحاوي، وهو رجل أعمال أردني ناشط في مجال حقوق الإنسان: "الحقيقة، هي أن أجهزة المخابرات أصبحت منغمِسة في كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية، علاوة على الأمن. فهي تدقِّق في تعيين كل أستاذ في الجامعة وكل سفير وكل رئيس تحرير، وهي تتجسس عبْر آلاف المخبرين الأردنيين الذين يتقاضون منها الرواتب، تماماً كما كان يحدث في الكتلة السوفييتية" (12). ويضيف إلى ذلك محمود خرباشه، وهو نائب أردني انضم إلى المخابرات الأردنية في عام 1974 وتقاعد كرئيس لها عام 1991، أن "بعض أعضاء البرلمان يسمحون للمخابرات بالتدخل في كيفية تصويتهم، لأنهم يعتمدون عليها في إعادة انتخابهم. المخابرات تتدخل إلى 90% من القرارات السياسية في البلاد، كما أنها مدّدت نشاطاتها إلى الاقتصاد، حيث تموّل شركات مثل زراعة الحق، وهي مؤسسة زراعية كُبرى تستثمر فيما وراء البحار أموالاً تبلغ مئات ملايين الدولارات مع جيش من آلاف الموظفين التابعين لها".

قادة أجهزة الأمن العربية باتوا فوق القانون، وهذا ما اعترفت به وزارة الخارجية الأمريكية نفسها، التي اعتادت أن تغض الطرف عن ممارسات حلفائها، خاصة أولئك الذين يُوفّرون للولايات المتحدة دعماً واسعاً في الحرب على الإرهاب. ففي تقريرها السنوي حول حقوق الإنسان لعام 2005، قالت الوزارة إن نقص المحاسبة والمساءلة في داخل أجهزة المخابرات والشرطة الأردنية، "خلق جواً من الحصانة وأسفر عن تقييدٍ كبيرٍ لحرية التعبير والصحافة والتجمع والتوسع في ممارسة التعذيب الجسدي والنفسي". ويخلص المحلل الفلسطيني داوود كتاب إلى أن "أجهزة المخابرات هي الصانع الرئيسي للسلطة في العالم العربي، بغضِّ النظر عمّا إذا كان البلد المعني مَلَكِياً أو جمهورياً. (13).

هل يعني ذلك أن أجهزة المخابرات، بما تمتلكه من سلطة سياسية وسطوة اقتصادية وهيمنة ثقافية، أصبحت طبقة في ذاتها ولذاتها في الأقطار العربية؟

يزيد الصايغ، الباحث البارز في الشؤون الأمنية والعلاقات العسكرية - المدنية لا يرى ذلك، إلا إذا ما كان بالمستطاع، في رأيه، الحديث عن ولادة بورجوازيات دولة في الدول العربية، لكنه في ختام بحث مستفيض بعنوان "إصلاح القطاع الأمني في المنطقة العربية"، يستطرد ليقول التالي: "يرى لوكهام أنه لا يجب الإطلالة على القطاع الأمني على أنه قطاع موحّد ومُتسق، بل هو "أرض" متقلبة من التحالفات الأمنية، التي تنشأ مع الأزمات أو الإصلاحات. وهذا صحيح، ولكن تمركز السلطة السياسية وسلطة "البنى التحتية" في معظم المنطقة العربية، يشي بأن سياسة التحالفات هذه تُرجّح أن تحدث داخل حلقة ضيقة من المُستفيدين الرئيسيين، خاصة في الأنظمة السلطوية وأيضاً في الأنظمة شبه الليبرالية".(14).

إذا لم تكن أجهزة المخابرات طبقة، إلا أنها تمارس بالفعل ما يُشبه دور الطبقة على مستويين إثنين: دور الهيمنة الأيديولوجية (كما ألمحنا)، ودور بلورة التحالفات الحاكمة بقيادتها. وهنا ربما يمكن الحديث عن "كتلة تاريخية" حاكمة حالياً في المنطقة العربية، تتكوّن من إئتلاف يضم أجهزة المخابرات والمؤسسة العسكرية ورجال الأعمال الجُدد. كل فريق من هذا الثلاثي يؤمّن للنظام بعض مبرِّرات الاستمرارية: الأول، بتحالفاته الخارجية مع الغرب وبتمدّده إلى المجتمع المدني وسطوته عليه. والثاني، بقوته الخاصة والعامة في القطاع العام. والثالث، بنفوذه المالي والاقتصادي.
الأجهزة والنظام الدولي
الدور الذي تلعبه التحالفات الخارجية، خاصة الأمريكية منها، في تعزيز وديمومة النظام الأمني العربي الراهن يبدو كبيراً وأساسياً أو هذا على الأقل ما يعتقده أرنولد لوتهولد أن "المصالح الأمريكية وما تعتبره الولايات المتحدة تهديدات لها، كان ولا يزال عاملاً حاسماً في تشكيل البُنى الأمنية الوطنية في العديد من الدول العربية. وعلاوة على ذلك، لا تزال الولايات المتحدة القوة المهيمنة في الشرق الأوسط، ولذلك يجب اعتبارها جزءاً لا يتجزأ من قطاع الأمن في المنطقة".(15).

في الثمانينيات، وبالتحديد بعد حرب الكويت عام 1991، تحوّلت موازين القوى العسكرية في منطقة الخليج بقوة لصالح الولايات المتحدة وباتت الدول العربية المُطلة على الخليج، معتمدة بكثافة على القوات الأمريكية للحفاظ على أنظمتها ولبناء وتطوير وتدريب أجهزتها الأمنية، وهذا أثار ردّ فعل معارض عنيف في السعودية على وجه التحديد، ما دفع ولي العهد آنذاك الأمير عبد الله إلى إصدار مرسوم في فبراير 2003 لفكّ الارتباط العسكري مع الولايات المتحدة. بيد أنه من الوهْم الاعتقاد بأن انسحاب القوات الأمريكية من المملكة، شكّل تخلياً عن السياسة الأمنية السعودية، فمثلها مثل دول الخليج الأخرى، ليس للسعودية على المدى القريب على الأقل، أي بديل عن مواصلة الاعتماد على الولايات المتحدة في مجال التعاون الأمني في شتى المجالات. كل ما في الأمر، أن سحب القوات الأمريكية إلى قَطَر، أخرج هذا التعاون الأمني من دائرة الضوء.

هذا النمط من التعاون الأمني ينطبق أيضاً على العديد من الدول العربية خارج منطقة الخليج، كمصر واليمن والأردن ودول المغرب العربي، وبالطبع العراق والضفة الغربية المحتلَّين. الأردن على وجه التحديد يُشكّل، بعد مصر، الطرف الأوثق علاقة مع الأجهزة الأمنية الأمريكية، وهو يُعتبر ثاني أكبر متلقٍّ للمساعدات العسكرية والأمنية الأمريكية بعد مصر.

ليس من السهل تحديد طبيعة التعاون بين الأجهزة الأمنية الأمريكية والأجهزة الأمنية العربية. فالأمر كله محوط بستار من السرّية التامة، التي لم يشكّل فيها كتاب مايلز كوبلاند "لعبة الأمم"، سوى رأس جبل الجليد المختفي تحت سطح البحر. لكن حدث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة وما تبعها من حرب عالمية أمريكية على الإرهاب، ثم تحرّك واشنطن لتشجيع عمليات تحوّل ديمقراطي في الأقطار العربية، قد يضيئان بعض جوانب هذا التعاون.

ففي مجال مكافحة الإرهاب، لم تتأخر أي دولة عربية، بما في ذلك سوريا، عن التنسيق الأمني وتبادل المعلومات مع الأجهزة الأمريكية، وهذا، إضافة إلى الجهود المكثفة التي بذلتها واشنطن لإقامة أجهزة أمنية جديدة في بعض الدول العربية وتعزيز الأجهزة القائمة في دول أخرى، شكّل دُفعة قوية للغاية لتوسّع قطاع الأمن العربي، بحيث أصبح هذا الأخير لاعباً في الساحة الدولية، وأحياناً محدداً أوحدَ للسياسات الخارجية في بعض هذه الدول.

ثم أن الصورة تصبح أوضح بكثير، حين نأتي إلى مسألة الإصلاحات الديمقراطية. فحين وصلت الضغوط الأمريكية لتحقيق الإصلاحات في المنطقة العربية إلى ذروتها في الفترة بين 2003 و2007، بقيت هذه الجهود محصورة في الشأنين، السياسي نسبياً والاقتصادي أساساً، ولم تتطرق البتّة إلى مسألة الإصلاح الأمني الذي تدُل تجارب فلسطين وأوروبا الشرقية وإندونيسيا وتشيلي، كما سنرى لاحقاً، أنها عامل حاسم في إطلاق الدمقرطة السياسية وتعزيز مسيرتها، لا بل هي شرط مُسبَق لازم لها.

هذان العاملان المتقاطعان، أي المتطلبات الأمنية الأمريكية لمكافحة الإرهاب وغياب الإصلاح الأمني عن أجندة الإصلاحات الديمقراطية العامة، قد يُفسّران أمرين إثنين في آن: الأول، أسباب استمرار توسّع وصعود الأجهزة الأمنية العربية. والثاني، طبيعة المقاربة الأمريكية للحياة السياسية العربية، والتي يبدو أن الطابع الغالب عليها، على رغم كل اللغة التبشيرية الديمقراطية الأمريكية، هو ما يسميه فريدريك غرير "العائق السيكولوجي" المتمثّل في الاعتقاد بأن سيطرة وتفوّق الأجهزة الأمنية (في العالم الثالث)، هي حقيقة من حقائق الحياة التي لا يمكن تغييرها".

بيد أن هذا التحليل الصحيح، المستند إلى الإطلالة الاستشراقية الغربية على دول الجنوب، قد يكون منقوصاً إذا لم نضع في الاعتبار أن الديمقراطية الوحيدة التي تقبل بها الولايات المتحدة في الشرق الإسلامي، هي تلك التي تتوافق مع مصالحها، وإلا فإنها ستنقلب ضدها، وهذا على أي حال ما دلّت عليه تجارب كلا من فلسطين ومصر والجزائر والعراق.

ثم أن هذا "العائق السيكولوجي" أثبت (كما سنرى بعد قليل) أنه واهٍ في بلدين من بلدان العالم الثالث، يمران في المرحلة الديمقراطية الانتقالية، أحدهما مسلم والثاني مسيحي: إندونيسيا وتشيلي اللتين مرّتا هما أيضاً في الحكم العسكري الذي لعبت فيه أجهزة الأمن دوراً رئيسيا. (16).
إصلاح أجهزة الأمن.. ضرورة
قلنا في البداية إن الهدف من هذه الدراسة، ليس تضخيم نظرية المؤامرة التي قد ترى إلى أشباح أجهزة المخابرات العربية على أنها بيت داء كل الصعوبات العربية، كما ليس الهدف أيضاً حضّ المجتمعات العربية على إعلان الحرب على هذه الأجهزة، بل الدعوة إلى تصويب توجّهاتها وتسهيل السيطرة المدنية على نشاطاتها.

وعلى أي حال، مثل هذه المقاربة وطنية وقومية، بقدر ما هي براغماتية. فهي وطنية وقومية، بسبب التحديات الكبرى التي تتعرّض إليها الأمة العربية في هذه المرحلة التاريخية الدقيقة (التفتيت والاحتلال، كما أشرنا في المقدمة) والتي باتت تتطلّب الإعلاء من شأن الأمن القومي العربي لا إضعافه أو تشتيته، وهي براغماتية لأن الأنظمة العربية أثبتت خلال العقود الثلاثة الأخيرة قدرة فائقة على البقاء وعلى التصدّي بعُنف ونجاح لكل محاولات تغييرها أو حتى تغيير سلوكها بالقوة. ولذا، تدعو الحِكمة الواقعية إلى رفع شعار إصلاح قطاعات الأمن، التي هي العصب الرئيسي لهذه الأنظمة، لا تغييرها أو نسفها.

لكن، ما هي الأسس التي يجب إرساؤها لتحقيق هذه الإصلاحات؟ إنها عديدة: أولاً، العمل على تغيير مفهوم "ثقافة الأمن" السائدة حالياً في كل الوطن العربي على طرح السؤال: من الفئات التي يجري ضمان أمنها حالياً وما نسبتها من عدد السكان ومن الفئات الاجتماعية التي يحتاج أمنها إلى ضمانات؟ في الوقت الراهن، لا تزال ثقافة "الأمن الخشن"، (Hard Security)، أي الذي تُستخدم فيه أساليب قمعية وعنفية شديدة، هي المُهيمنة بسبب انسداد التطور الديمقراطي من جهة، وتجارب الصراعات الأهلية والحروب الإقليمية، من جهة أخرى.

إصلاح الثقافة هنا، يتطلب سدّ الفجوة الهائلة الحالية بين أمن الحكام والمحكومين وبين أمن النظام والدولة وبين أمن المواطن والمجتمع، وهذا يمكن أن يتِم عبْر الإعلاء من شأن ثقافة الأمن الإنساني" Human security " وموازنتها مع مفهوم "الأمن القومي أو الوطني". هذه الثقافة تتطلّب أن يكون المواطن أو الفرد مِحور الأمن لا النظام أو الدولة، وتعتبر أن هذا أمر ضروري للغاية للحفاظ على الاستقرار الوطني والإقليمي والعالمي.

برز مفهوم الأمن الإنساني بعد نهاية الحرب الباردة، وكان حصيلة تقاطُع جهود قامت بها الفروع العلمية التالية: دراسات التنمية والعلاقات الدولية والدراسات الإستراتيجية وحقوق الإنسان. وكان برنامج التنمية للأمم المتحدة عام 1994 وتقرير حقوق الإنسان، نقطة تحوّل في مجال الأمن الإنساني، حيث جادلا بأن "الحرية من العوز" و"الحرية من الخوف" لكل الناس، هما الطريق الأنجع لمواجهة مشكلة اللاأمن العالمي. والآن، يُدرّس هذا المفهوم في الجامعات كجزء من العلاقات الدولية والعولمة ودراسات حقوق الإنسان، لكنه من أسف، غائب عن العديد من الأقطار العربية.

تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2009 شدّد على أن الأمن الإنساني يوازي التنمية البشرية، وهو ضروري لمخاطبة العجوزات الثلاثة، التي تقف حجر عثرة في طريق تحقيق القدرات الإنسانية في الوطن العربي، وهي عجوزات المعرفة والحرية و اللامساواة بين الجنسين. ( 17).

الخطوة الأولى واللازمة لتحقيق الأمن الإنساني، هي فرض سيادة القانون بهدف ضمان حقوق وحريات الفرد وحل الصراعات على السلطة بالطُّرق السلمية. فالوطن العربي يضم الآن نحو 400 مليون نسمة، وهو عدد يُنتظر أن يتضاعف بعد أربعة عقود، أي عام 2050. ما يسوده حالياً، هو الخروج على القانون وفقدان حقوق كل المواطنين العرب، خاصة النساء والأطفال وأولئك الذين يعيشون في فقر مدقَع. وهكذا، فإن نصف سكان العالم العربي لا تُوفّر لهم فرصا متساوية وحقوقا متساوية، "هذا في حين كان يتوجب ضمان حماية الكرامة الإنسانية لهم من المؤسسات نفسها (أي أجهزة الأمن)، التي تحمي أمن الأنظمة". (18).

السؤال الذي يُطرح كلما برزت مسألة الإصلاح الأمني هو: هل يمكن تحقيق هذا الإصلاح من دون تهديد الاستقرار والتماسك الوطنيين في البلد المعني، خاصة وأن النسيج الاجتماعي هشّ في معظم الأقطار العربية؟

وهذا السؤل يزداد أهمية، بعد أن دلّت الحروب الأهلية والصراعات العنيفة في العديد من الأقطار العربية (الجزائر، سوريا، مصر، العراق قبل غزوه عام 2003، الاردن..إلخ) على أن قطاع الأمن هو الذي أبقى هذه الدول متماسكة، فيما دُمّرت المؤسسات السياسية والاجتماعية الأخرى. (19).

الجواب يصبّ تماماً فيما تدعو إليه هذه الدراسة: إصلاح المؤسسات الأمنية لا تدميرها، مما يمكنها من لعب الدور المزدوج الذي يجب أن تلعبه: الحفاظ على الاستقرار من جهة، وحماية أمن المواطن واحترام حقوقه من ناحية ثانية. ومثل هذه المعادلة، ستكون بطاقة تأمين بالغة القوة لتحقيق ليس فقط الاستقرار على المدى الطويل، بل أيضاً لإفساح المجال أمام التفتح الديمقراطي والتطور الاقتصادي في داخل الأنظمة القائمة حالياً.

وهذا يعني أن إصلاح أجهزة الأمن، يجب أن يكون جزءاً من الإصلاحات الديمقراطية العامة، على أن تُحدد لمَن ستكون الأولوية في البداية: للإصلاح الأمني أم السياسي، وفق ظروف كل دولة الخاصة وتاريخها وتركيبتها الخاصة.

بالطبع، فإن أجهزة الأمن - وبسبب ثقافة "الأمن الخشن" والمصالح الاقتصادية الضخمة والنفوذ السياسي (والثقافي والفكري) الهائل الذي باتت تمتلك - ستقاوم بضراوة أي إصلاحات لقطاع الأمن، كما يمكن أن تقف بالمرصاد أيضاً لبرنامج الإصلاح الديمقراطي، طالما أنه سيؤدي في خاتمة المطاف إلى تَقنين وترشيد دورها. فما الحل إذن؟

(البقية في الجزء الثاني)
سعد محيو - بيروت- swissinfo.ch
29 مارس 2011 - آخر تحديث - 10:03
ارسل هذا المقال اطبع هذا الموضوع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.