وادي مليز: منشأة مائية على مستوى وادي الرغاي لفك عزلة منطقة الدخايلية    عاجل : فرنسا تُعلّق منصة ''شي إن''    تونس تطلق أول دليل الممارسات الطبية حول طيف التوحد للأطفال والمراهقين    ممرض ألماني أنهى حياة 10 مرضى... ليخفف عبء العمل عليه    الأولمبي الباجي يعلن عن تاهيل لاعبيه هيثم مبارك وفراس المحضاوي    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    5 أخطاء يومية لكبار السن قد تهدد صحتهم    حريق بحافلة تقل مشجعي النادي الإفريقي قبل الدربي    تونس ستطلق مشروع''الحزام الأخضر..شنيا هو؟''    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    مدير ديوان رئيسة الحكومة: قريباً عرض حزمة من مشاريع القوانين على البرلمان    أعلاها 60 مم: كميات الأمطار المسجلة خلال ال24 ساعة الماضية    المنتخب التونسي تحت 23 عاما يلاقي وديا السعودية وقطر والامارات من 12 الى 18 نوفمبر الجاري    الديربي التونسي اليوم: البث المباشر على هذه القنوات    المنتخب التونسي للبايسبول 5 يتوج ببطولة إفريقيا    ظافر العابدين في الشارقة للكتاب: يجب أن نحس بالآخرين وأن نكتب حكايات قادرة على تجاوز المحلية والظرفية لتحلق عاليا في أقصى بلدان العالم    خطير: النوم بعد الحادية عشرة ليلاََ يزيد خطر النوبات القلبية بنسبة 60٪    عفاف الهمامي: كبار السن الذين يحافظون بانتظام على التعلمات يكتسبون قدرات ادراكية على المدى الطويل تقيهم من أمراض الخرف والزهايمر    هام: مرض خطير يصيب القطط...ما يجب معرفته للحفاظ على صحة صغار القطط    خروج قطار عن السكة يُسلّط الضوء على تدهور البنية التحتية للسكك الحديدية    تحذير من تسونامي في اليابان بعد زلزال بقوة 6.7 درجة    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    عاجل-أمريكا: رفض منح ال Visaللأشخاص الذين يعانون من هذه الأمراض    اختتام الدورة الثالثة للمهرجان الوطني للمسرح التونسي "مواسم الإبداع": مسرحية "الهاربات" لوفاء الطبوبي تُتوّج بجائزة أفضل عمل متكامل    الجزائر.. الجيش يحذر من "مخططات خبيثة" تستهدف أمن واستقرار البلاد    شوف وين تتفرّج: الدربي ومواجهات الجولة 14 اليوم    التشكيلات المحتملة للدربي المنتظر اليوم    الأربعاء المقبل / إطلاق تحدّي " تحدّ ذكاءك الاصطناعي" بالمدرسة العليا للتجارة    النواب يناقشو مهمة رئاسة الحكومة: مشاريع معطّلة، إصلاح إداري، ومكافحة الفساد    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    الشرع في واشنطن.. أول زيارة لرئيس سوري منذ 1946    مالي: اختطاف 3 مصريين .. ومطلوب فدية 5 ملايين دولار    تشيلسي يصعد لوصافة الدوري الإنجليزي بالفوز على وولفرهامبتون    رأس جدير: إحباط تهريب عملة أجنبية بقيمة تفوق 3 ملايين دينار    منخفض جوي وحالة عدم استقرار بهذه المناطق    بطولة القسم الوطني أ للكرة الطائرة: نتائج الدفعة الثانية من مقابلات الجولة الرابعة    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    عماد الأمن الغذائي والمنظومة الإنتاجية .. الدعم لإنعاش الفلاّح وإنقاذ الفلاحة    الدورة 44 لمعرض الشارقة الدولي للكتاب: 10أجنحة تمثل قطاع النشر التونسي    من كلمات الجليدي العويني وألحان منير الغضاب: «خطوات» فيديو كليب جديد للمطربة عفيفة العويني    دعوة الى رؤية بيئية جديدة    تقرير البنك المركزي: تطور القروض البنكية بنسق اقل من نمو النشاط الاقتصادي    منوبة: الكشف عن مسلخ عشوائي بالمرناقية وحجز أكثر من 650 كلغ من الدجاج المذبوح    هذه نسبة التضخم المتوقع بلوغها لكامل سنة 2026..    شنيا حكاية فاتورة معجنات في إزمير الي سومها تجاوز ال7 آلاف ليرة؟    عاجل: من مساء السبت والى الأحد أمطار رعدية غزيرة ورياح تتجاوز 90 كلم/س بهذه المناطق    البنك المركزي: نشاط القطاع المصرفي يتركز على البنوك المقيمة    الدورة الاولى لمهرجان بذرتنا يومي 22 و23 نوفمبر بالمدرسة الوطنية للمهندسين بصفاقس    هام/ الهيئة الوطنيّة للوقاية من التعذيب تنتدب..#خبر_عاجل    بسمة الهمامي: "عاملات النظافة ينظفن منازل بعض النواب... وعيب اللي قاعد يصير"    بايدن يوجه انتقادا حادا لترامب وحاشيته: "لا ملوك في الديمقراطية"    جلسة عمل بوزارة الصحة لتقييم مدى تقدم الخطة الوطنية لمقاومة البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية    أمطار بهذه المناطق خلال الليلة المقبلة    تونس: ارتفاع ميزانية وزارة الثقافة...علاش؟    تعرف قدّاش عندنا من مكتبة عمومية في تونس؟    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    مصر.. فتوى بعد اعتداء فرد أمن سعودي على معتمر مصري في المسجد الحرام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حقيقة الحداثة بقلم خالد ناصر الدين
نشر في الحوار نت يوم 26 - 09 - 2010

رغم المداد الكثير الذي سال حول مفهوم الحداثة ، ورغم النقاش الواسع الذي أثاره ، فإن المتتبع للشأن الثقافي العربي يدرك بسهولة ، أن الأمر لم يحسم بعد ، وأننا ملزمون بمواصلة النقاش حول الموضوع ، لأنه يعتبر موضوع الساعة بامتياز ، بل إن الحاجة إلى طرحه للنقاش تزداد يوما بعد يوم خاصة في ظل المتغيرات الدولية والتطور التكنولوجي المذهل الذي يسعى إلى إذابة كل الحدود وكل الفروق وإلى نفي كافة الخصوصيات ، ثم مادامت أصوات المغربين والحداثيين ماتزال حاضرة تتردد في مختلف المنتديات واللقاءات مدافعة عن الحداثة الغربية أصولا ورموزا ومعطيات ، بل إنهم مازالوا يلحون على ضرورة الانخراط التام والكامل وغير المشروط في ركب هذه الحداثة التي فرضت نفسها فرضا لأنها غازية كاسحة لا تعترف بالحدود أيا كانت هذه الحدود .
يجب الإقرار بدءا بأن بداية الحداثة الغربية " كانت في الأوساط النصرانية الكاثوليكية . وهناك من يرجع بتاريخ بداية هذه الحركة الدينية إلى القرن الخامس عشر ، أي قبل ظهور حركة الإصلاح البروتستاني ."[1]، وتكتسب هذه الإشارة مشروعيتها انطلاقا من القطيعة التي أعلنتها الحداثة مع الدين انطلاقا من ممارسات الكنيسة القمعية ، ومواقفها القائمة على الظلم و المنع والصد والمحاكمات الجائرة والقاسية ، ويكتسب استحضار هذا المعطى التاريخي أهمية قصوى بالنظر إلى خصوصية العداء للدين التي ظلت ملازمة لحركة الحداثة في مختلف صورها وأبعادها ووجوهها : سياسيا ، واجتماعيا ، واقتصاديا ، وثقافيا ، وأدبيا ، وفنيا ... ويمكن في هذا الصدد تحديد ما يميز الحداثة الغربية في ثلاثة أصول رئيسية :
" أولها _ اللائكية اللادينية ، أي نبذ المرجعيات المطلقة ، والأحكام الغيبية الإيمانية ، وما إلى ذلك مما يسمونه " متعاليات " ميتافيزيقية .
ثانيها _ الإنسان بما هو المركز وقطب المدار : الإنسان / الإله ، الإنسان / المطلق ، الإنسان / المتعالي ، الإنسان / الجوهر ، الإنسان / السوبرمان ، الإنسان / العقل ، الذي يصنع حياته ، ويطور نمط عيشه ، ويضع قوانينه ، ويستنبط أخلاقه وشريعته . في جملة ، الإنسان الذي هو المبدأ والمعاد .
ثالثها _ الرؤية " الطليعية " التجريبية ، التي لا تؤمن بالمثال السابق ، ولا تؤمن بالثبات أو الرجوع أو النظر إلى أصل ، أو نموذج ، أو مبدأ ، أو اعتقاد له وجود قبلي . إنما الأمر تغيير ، وتجاوز ، وهدم ، ونقض مستمر . "[2]
المثير للانتباه فعلا أن الحداثة بهذا الحمولة وهذه الخصوصيات الغربية اقتحمت حدود كل الأمم وكل الحضارات بما فيها الأمة الإسلامية والحضارة العربية الإسلامية ، شأنها في ذلك شأن مجموعة من المصطلحات التي نادرا ما يتم الانتباه إلى خلفياتها الفكرية والحضارية وأبعادها التاريخية والثقافية كما هو الشأن بالنسبة لمصطلحات : " الحرب العالمية الأولى " و " الحرب العالمية الثانية " و " عصر الاكتشافات " و " عصر الظلمات " و " عصر الأنوار " ... فهذه كلها مصطلحات مرتبطة أشد الارتباط بأوروبا ومع ذلك يتم تعميمها على كل شعوب العالم بشكل فيه الكثير من الاستعلاء والاستكبار والإحساس بالتفوق وبالمركزية ، والأمر نفسه ينطبق على مصطلح " الحداثة " " فقد ساد الاعتقاد أن هذا مصطلح محايد ، محدد المعنى والدلالة ، وأن الحداثة ليس لها تاريخ ، وأن تبدياتها لا تختلف من حضارة لأخرى ، أو من حقبة تاريخية إلى أخرى ، وأن هناك حداثة واحدة . " ، ورغم تعدد التعريفات التي سعت إلى تحديد الحداثة وتأطيرها فإن " ثمة ما يشبه الإجماع على أن الحداثة مرتبطة تماما بفكر حركة الاستنارة الذي ينطلق من فكرة أن الإنسان هو مركز الكون وسيده ، وأنه لا يحتاج إلا إلى عقله سواء في دراسة الواقع أو إدارة المجتمع أو للتمييز بين الصالح والطالح ، وفي هذا الإطار يصبح العلم هو أساس الفكر ، مصدر المعنى والقيمة ، والتكنولوجيا هي الآلية الأساسية في محاولة تسخير الطبيعة وإعادة صياغتها ليحقق الإنسان سعادته ومنفعته . "[3].
إن أهمية البعد الزمني بالنسبة للحداثة تكمن في كون كل تعريف للحداثة لا يعتبر جامعا مانعا إلا إذا استحضر هذا البعد ، كما أن " كل حديث ينبغي أن يكون حديثا ، أولا وقبل كل شيء بالنسبة ( لزمنه ) أي لعصره الذي وجد فيه ، فهو لا يكتسب شرعيته من خارج الزمن ، وهنا نستطيع أن نقول إنه ( جديد ) ، فالجدة أكثر ارتباطا بالزمن ، وأشد التصاقا بمخالفة ما كان شائعا "[4]، والنتيجة أن الهوة اتسعت بين مفهومي الجدة والحداثة ، فكم من جديد في عصره ، لم يستطع أن يكتسب صفة الحداثة ، فظل بذلك عاجزا عن اختراق حاضره إلى مستقبله ، ولم يستطع بذلك أن يكون حديثا ، رغم أنه اكتسب ( حداثة مؤقتة ) أي مزيفة ، لأنه ظل في زمنه حديثا . والأمر نفسه يطرح بالنسبة للعلاقة بين مفهومي " الحداثة " و " المعاصرة " ، ف " المعاصرة تعبير عن النتاج الفكري للحالة الزمنية الحاضرة ، وهي _ كالحداثة _ ليست مطلقة بل خاضعة لمؤثرات الزمان والمكان ، كما هي خاضعة لما يعتري البشر من زلل أو قصور فزمانيتها الراهنة لا تعطيها صفة القداسة أو الصواب . "[5]، إن المعاصرة تعني الاستجابة لدواعي العصر ومقتضيات التطور ، والتعبير عن رغبة في أن يعيش الإنسان عصره لا عصور من سبقه ، أما الحداثة فهي أعم وأشمل من المعاصرة ، فهي تعني الابتكار والتجديد ، وتكوين رؤية مغايرة عن الرؤى السالفة ، فبقدر ما كانت المعاصرة تعني حضورا آنيا في خضم العصر ، بقدر ما كانت الحداثة تعني ذلك الحضور نفسه إضافة إلى التميز والتفرد برؤية جديدة .
ودائما في سياق العلاقة الوثيقة الرابطة بين الحداثة والزمن فإن الأمر يفرض إعادة النظر في مجموعة من المفاهيم المتداولة التي تعتبر شديدة الصلة بهذا المفهوم ولعل أهمها : التراث ، القديم ، التقليد ، الأصالة ... ف " التراث ما أبدعته أمة من الأمم سواء أكان إبداعا ماديا أم فكريا ضمن مرحلة تاريخية من مراحل حياتها . وهذا ينطبق على أمة الإسلام وعلى غيرها ( ) ولكن الذي له خصوصية متميزة في حضارتنا هو أن الدين قرآنا وسنة ليس مما أبدعته الأمة حتى يجري عليه التراث ، وتنطبق عليه صورة التعامل مع التراث ، بل إن الدين بصورته المنزلة هو شريعة سماوية تم إبداع التراث على هواها ... "[6]
أما القدم والقديم " فهو معيار زمني لا يرتبط بأمة معينة . فالأزمان المتعددة كل سابق للاحق منها يعد قديما ... " والتقليد " موقف إنساني من القديم والحديث معا ، فقد يقلد المرء إنسانا قديما أو حديثا ، أو حضارة قديمة أو حديثة ، فيسمى مقلدا حتى لو قلد آخر " تقليعة " في " الموضات "[7]
أما الأصالة فإنها " لا ترتبط بزمن معين ، بل ترتبط بقيمة عمل معين . فالعمل الأصيل ما كان مرتبطا بشخصية مبدعة ، ولم يكن فيه عالة على غيره . والعمل الأصيل _ من جهة أخرى _ مرتبط بالأصل " وأصل كل شيء نسبه الذي إليه يرجع ، وله ينتسب ، وجوهره وحقيقته وثوابته الباقية ، والمستعصية على الفناء والزوال ، فالأصالة في ثقافة ما ، هي هويتها المتمثلة ب " البصمة " التي تميزها عن غيرها من ثقافات أمم الحضارات الأخرى "[8]
إن الحداثة في حقيقتها حالة أو موقف من الحالة الفكرية أو الثقافية التي تسبق الحالة التالية ، وهي لا ترتبط ببيئة معينة أو بزمن معين . " فالإسلام مثلا يمثل حداثة بالنسبة إلى المرحلة التي سبقته من الجاهلية ، ومثله الأديان الأخرى ، وموقف أوربا في عصر ( التنوير ) حالة حداثة ، لأنه موقف من الكنيسة والإقطاع والدين نفسه ، ولسنا هنا إزاء معيار صحة أو خطأ . المهم أنك أمام حالة تالية زمنيا ، ومثلما تختلف الأزمان في تعاقب حداثتها ، تختلف البيئات كذلك ، فلكل حداثة بيئتها وظروفها ومقولاتها . "[9]
أجرى الأستاذ طه عبد الرحمن " على مفهوم " الحداثة " آليات نظر ثلاث : " التنسيب " وهو المتجلي في قوله : إنه يمكن أن تكون لكل أمة الحداثة التي تنسب إليها نسبة . و " التعديد " : إذ يمكن أن ندخل "التعدد" إلى قلب سيرورة الحداثة بحيث نصير أمام " حداثات " لا حداثة واحدة ، وذلك شأن أن نصير أمام حداثة أولى وثانية وثالثة ... و " التمكين " إذ تصير الحداثة أمرا " ممكنا " لا " قدرا منزلا " ، ذلك أنه إذا حدث أن تكلم المفكر العربي في أمر " الحداثة " مثلا ، فإنه " ليس من الضروري أن يأتي حديثه عنها على الوجه الذي أتى به عند المنقول عنه [ الغرب ] ، فيجوز أن يستحدث بصددها قيما ومعاني توجه خروجنا من التخلف من غير أن تكون هذه القيم والمعاني هي التي أخرجت الغرب إلى الحداثة ، ولا أن يكون معمولا بها في مجتمعاتهم . "[10]
مناقضات حداثة الغرب :
وقعت الحداثة الغربية في جملة من التناقضات الكفيلة بتوضيح زيف ما يدعيه أصحابها من " تقدم " و "إنسانية " و "حرية " و " إبداعية " و " عقل " و " كرامة "و " عدل " و " تسامح " ... [11]
_ " هذه الحداثة التي انبنت على رفض مبدأ " الوصاية " صارت تفرض الوصاية على غيرها ، هذا مع سابق العلم ، أن لا حداثة بالوصاية ، إذ الحداثة تعني أصلا أن لا وصاية .
_ هذه الحداثة الغربية التي انبنت على مبدإ " الإبداع " إذ هي قطعت مع ماضي الغرب الوسيط المظلم عندها صارت تطالب الغير بالقطع مع ماضيه وإن كان هو منيرا وإن شهد على إنتاج بديع .
_ وهذه الحداثة التي أتت لإزهار الذات وتفتحها أزهرت ذات أهلها وأذبلت ذات الغير بحيث صارت ذات أهلها مزهرة متفتحة وذواتنا ذوية ذابلة ، فلم تسع هي إلى " الإزهار المعي " قدر ما سعت هي إلى " الإزهار الأناني " .
_ وهذه الحداثة التي سعت إلى إشاعة روح النقد نقدت كل شيء إلا أداة النقد نفسه : العقل .
_ وهي التي دعت إلى الانسلال عن الدين بالكلية توسلت العديد من المفاهيم الدينونية بحيث صارت أخلاق الحداثة ( كانط ) الدنيوية أخلاقا ديانية خفية لا جلية ، بما دل على استحالة الفصل المطلق بين الدنيوية والدينونة وإمكان الفصل الوظيفي بينهما .
_ وهذه " التي جاءت لخدمة الإنسان توسلت إلى مبادئ شأن " الحرية " و " العقل " و " الكرامة " و " العدل " و " التسامح " استعبدت الإنسان للحاجة المادية الصرفة دون الروحية المعنوية واستتبعته وألحقته . وهي التي أحدثت التنمية وسيلة لتحقيق القيم صيرتها غاية وأحالت القيم وسيلة . "
_ " فهذه الحداثة رامت ما رامته من شؤون وقد توسلت إلى مشاريع أدت إلى أمور ثلاثة : الانفصال عن التراث والمقصود به إلغاء حرمة التراث أكان تراثا دينيا أو ثقافيا أو سياسيا أو اجتماعيا ، والانفصال عن الطبيعة واستعبادها وجعلها للإنسان ذلولة ، والانفصال عن الحيز الجغرافي والفيزيائي معا . فكان أن لم تحفظ الحداثة لا حرمة التراث ، ولا حقوق الطبيعة ، ولا خصوص المجال الجغرافي والفيزيائي ، وهي الامتدادات التي بها يتقوم وجود الإنسان ويتحدد . "
أما مبادئ الحداثة الثلاثة " العقل / الذات / الحرية " ، فقد ناقش الأستاذ طه عبد الرحمن كل مبدإ منها ، كاشفا حقيقته وخلفيته ونقط ضعفه :
_ نقد مبدأ " العقل " : " الحال أن عقل الحداثة هذا " عقل مستقل " أو هو " عقل منفصل " أي أنه عقل مجرد عن الشرع ومفصول عن الخلق ، ادعى أنه حر وما هو بحر ، " العقل المنفصل نسي الميثاق [ ما استعهد الله الإنسان على إيفائه فيما تعلق بحسن رعاية المخلوقات ] أو تناساه ، فنسب الأمر كله إلى نفسه ، بحيث لا يرى في الأشياء إلا مجالا لممارسة سيادته . "[12]
_ نقد مبدأ " الذات " : " الفردانية في نظرنا ليست لازمة لروح الحداثة ولا ملازمة لها ، روح الحداثة جاءت للإنسان فالتبس الأمر عليهم ، واعتبروا الإنسان هو الفرد ، والإنسان قد يكون زوجا أو جماعة أو مجتمعا . وتطبيق الغرب هو حداثة الفرد ، ولذا نحتاج إلى تفكير للفرد يتعلق بغيره أكثر مما يتعلق بنفسه . "[13]
_ نقد مبدأ " الحرية " :
" ... الحداثة الغربية لم تسع إلى التسلط على الطبيعة الخارجية فقط ، جالبة لها الضرر ما ليس في الحسبان ، بل إنها أيضا تتسلط على الطبيعة الإنسانية نفسها ، مغيرة فيها الخَلقَ والخُلق ، وفضلا على هذا التسلط على الإنسان باسم الحرية ، ما تسلطت الحداثة الغربية على إنسانها فحسب وإنما تسلطت على الغير ... "[14]
أيصح بعد هذه التوضيحات أن نتحدث عن حداثة واحدة بصيغة المفرد ؟ أم أننا ملزمون بالحديث عن حداثات متعددة ومختلفة ومتنوعة ؟ هل نصدق بعد هذه التوضيحات من يدعو إلى تعميم النموذج الحداثي الغربي على كل الأمم باختلاف لغاتها وثقافاتها وحضاراتها ؟ بل هل يمكن أن نتفق على تعريف موحد وثابت للحداثة ؟
ثمة مغالطة كبرى يرددها المفكرون المتغربون ، التقطوها من المؤرخ الإنجليزي آرنولد تويبني الذي قال : " إن الحضارات تؤخذ كلها أو تترك كلها ... "[15] ، ومغالطة أخرى وقع فيها هؤلاء تتمثل في الدعوة إلى الانفصال عن الماضي ، والواقع أنه لا يمكن " تجاوز تأثير التراث والماضي سواء في حضاراتنا ، أو في حضارات الأمم الأخرى ... والتاريخ الحديث والمعاصر شاهد على ذلك ، فقد ضاعت أدراج الرياح محاولات رضا بهلوي في إيران ، وأمان خان في أفغانستان ومصطفى أتاتورك في تركيا ، أقصد محاولاتهم في تغريب بلدانهم وسلخها عن الماضي ، وكانت الحصيلة مزيدا من التمسك بالتراث ، ومزيدا من رفض الغرب . "[16]


------------------------------------------------------------------------
(1) _Encyclopedia Universalis , édition 1978 , volume 10 , p135 نقلا عن " المودنيزم وصناعة الشعر " / د عبد العالي مجدوب / الطبعة الأولى : 2005 / ص : 86
(2) _( الموديرنيزم وصناعة الشعر : الأصول والفروع ) 211
(3) _( بين الحداثة الداروينية والحداثة الإنسانية العربية الإسلامية ) / عبد الوهاب المسيري / ضمن ( مستقبل الإسلام ) تأليف عدد من المؤلفين / الطبعة الأولى : شعبان 1425 ه / أكتوبر 2004 م
(4) _ " الحداثة : ما الحداثة ؟ " / د حسن الأمراني / مجلة " المشكاة " / العدد 15 _ 16 محرم _ جمادى الثانية 1413 ه / يوليوز _ دجنبر 1992 م / ص : 111
(5) _ " في مفهوم الحداثة " د شلتاغ عبود / " الأدب الإسلامي " / ع 33 / 1423 ه / 2002 م / ص : 55
(6) _ " في مفهوم الحداثة " د شلتاغ عبود / " الأدب الإسلامي " / ع 33 / 1423 ه / 2002 م / ص : 54 _ 55 ،
(7) _ " المرجع نفسه " ص : 54
(8) _ " الهوية الثقافية بين الأصالة والمعاصرة / د محمد عمارة / مجلة " الجهاد " / مالطا / ع 100 / 1991 م / ص : 93 ، نقلا عن " المرجع نفسه " ص : 54
(9) _ " المرجع نفسه "ص : 54 _ 55 .
(10) _ ( حوارات حول المستقبل ) / منشورات الزمن / سلسلة كتاب الجيب / العدد 13 / 2000 / ص : 59
(11) _ ( مسألة الحداثة في الفكر المغربي المعاصر ) / د محمد الشيخ / سلسلة شرفات 13 / منشورات الزمن / 2004 / ص : 164 .
(12) _ ( مسألة الحداثة في الفكر المغربي المعاصر ) 167 .
(13) _ ( المرجع نفسه ) 170
(14) _ ( المرجع نفسه ) 173
(15) _ " " الهوية الثقافية بين الأصالة والمعاصرة / د محمد عمارة / مجلة " الجهاد " / مالطا / ع 100 / 1991 م / ص : 93 ، نقلا عن " المرجع نفسه " ص : 56 .
(16) _ " المرجع نفسه "ص : 56 _ 57


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.