عبد الله أيت حسين الفيتامينات والبروتينات والدهنيات والكالسيوم والتركيبة الرباعية وأنواع المأكولات والأطعمة والمشروبات المنعشة والتي تجعلك أحيانا تحلق في السماء بجناحين،أصناف مصنفة من أنواع الصابونات وما يقيك هموم القشرة أو يجعل عضلاتك قوية مفتولة أو يغذي بشرتك فتصبح ناعمة خلال أيام معدودة...هذا بكل بساطة ما تحاول الاشهارات والإعلانات التجارية إقناع المستهلك بشرائه واقتنائه،ومع أن هذا المستهلك بشر من جسد وعقل وروح،إلا أن الاشهارات والإعلانات التجارية لا تخاطب فيه إلا الجسد والبطن،ولا تفعل شيئا غير تحريك شهواته وغرائزه الترابية. صحيح أن العقل السليم في الجسم السليم وأن الحفاظ على صحتنا مهم جدا بحيث يكون له تأثير على نشاط الأجهزة المسئولة عن التفكير والإحساس والشعور، وذلك يتطلب منا تغذية متوازنة ونظافة أكيدة دائمة لأجسامنا،وليس اثنان يختلفان على أن الشركات والمصانع التي تنتج هذه النوعية من البضائع والمنتجات الموجهة لتلبية رغبات جسم المستهلك تستند إلى حد بعيد في الإنتاج والصنع إلى نتائج الثورة العلمية الحاصلة في مجالي الطب والصيدلة اللذان يبهراننا كل يوم باكتشافات واختراعات جديدة إلى أن بلغ الأمر بالعلماء وأنصافهم وأذيالهم حدا يمكننا أن نصفه بالترف والتخمة في الاكتشافات والاختراعات العليمة. لم يكن آباؤنا وأجدادنا يعيشون في مثل هذا العالم الذي نعيش فيه، ولم يكونوا يستيقظون في الصباح الباكر ليغسلوا أسنانهم بالفرشاة أو يفعلوا ذلك قبل أن يأووا إلى الفراش، ولم يكونوا يعلمون شيئا عما نسميه نحن اليوم باسم السعرات الحرارية والسكريات أو يعلمون ما كانت تحتويه أطعمتهم ومأكولاتهم الخشنة والبسيطة من مواد مغذية ومقوية للجسم، ثم إنهم فوق ذلك لم يكونوا يعانون الأمراض العقلية والصدمات النفسية ولم تكن الأمراض المنقولة جنسيا متفشية فيهم كما هو حالنا اليوم.ماذا يظن أحدنا أن أرسطو أو أفلاطون أو ابن سينا أو الغزالي أو نيوتن أو اينشتاين أو شكسبير أو ابن خلدون وغيرهم من العباقرة وصناع التاريخ كانوا يأكلون أو يشربون، هل كانوا يلقون بالا لطعامهم ويهتمون بمعداتهم وتصفيف شعورهم...ومع ذلك فإننا سنرتكب في حقهم جريمة قتل مع سبق الإصرار والترصد إذا ما حاولنا أن نقارنهم ولو من قريب بالعلماء والنوابغ الذين أنجبتهم المدينة الحالية. إنسان الحضارة العلمية يركز كل اهتمامه ويسخر جهوده كلها لرشاقة جسمه وهشاشة عظامه وتكديس لحم عضلاته ، كما ينفق ما يملك وما لا يملك على العمليات التجميلية وتسريحات الشعر والمرهمات الجلدية التي تحسن البشرة وهلم جرا مما لا فائدة ترجى من وراءه سوى جمالية المنظر والمظهر ونعومة الجسم ورشاقته.أما القدماء الذين عاشوا قبلنا بقرون فقد كانوا بمنأى عن كل هذا التعقيد في الحياة التي نعيشها، كان اهتمامهم منصبا على تغذية عقولهم وترقيق قلوبهم وصفاء أرواحهم، وكانوا يعيشون ببساطة ودون تكلف أو تكبر، لهذا كانوا يعمرون طويلا ويشيخون في سن متقدمة جدا، ولم تكن المرأة فيهم لتقتل نفسها بالجوع وتضيق ذرعا بزيادة غرام واحد في وزنها، بل إنها تأكل كثيرا وتنجب فريق كرة قدم بكامل صفوفه، تلد واحد كل عام، ولا يؤثر ذلك في صحتها بشيء وقوتها بقوة عشرين حصانا، وتحمل من الأثقال ما لا تقوى على حمله بطلات الأولمبياد اليوم. ولو أتينا بجدة من جيل الاستعمار فقط، دون الذهاب بعيدا، قد تجاوزت المائة عام الآن ووضعناها في ميزان الصحة إلى جانب سيدة في الخمسينات ممن يلعبن التنس ويمارسن الرياضة والسباحة ويخفن الحمل على رشاقتهم وخفتهن، لتملكنا الإعجاب من الفرق الشاسع الذي سنلاحظه. مع ما نراه من تقدم العلم وانتشاره وتعدد وسائل بلوغه والوصول إليه بسهولة ويسر إلا أن الثقافة الغالبة هي ثقافة الجسد، والإنسان لا يزداد إلا انحطاطا أخلاقيا وروحيا، ومهما استهوتنا المدنية الحالية وبلغته من تحضر ورقي في طرق العيش وما زخرفت به حياتنا من تكنولوجيا وأدوات اتصال وتواصل، فإنها لم تخلق لصالح الإنسان ولم تراعي مصلحة البشرية في شيء، انها مصنوعة من جشع وطمع أصحاب الملايير ورؤوس الأموال الضخمة وذوي المصانع والشركات العملاقة الذين لا يهمهم سوى جني الثروات وليذهب عقل الإنسان ولتلحق به روحه إلى الجحيم. فرويد لم يرى في الإنسان إلا أعضاءه التناسلية ليبني على أساسها نظرياته وحول البشرية كلها إلى شواذ ومرضى مثل أولئك الذين يأتون إلى عيادته، أما المستر ماركس فلم يكلف نفسه عناء دراسة الإنسان والتوغل إلى أعماق نفسه فاكتفى منه بجيوب سرواله ليجعل منها مدار تاريخ البشرية كلها من ألفه إلى يائه والمحور الذي تدور في فلكه كل تحركات الإنسان. إنهما فعلا عبقريان في خبث ودهاء ولا أظنهما في حاجة إلى اعتراف واحد مثلي، فمذهباهما يساويان الذهب عند الكثيرين وفي بحرهما تسبح ثقافة الألفية الثالثة، وبناءا على مذهبيهما يعلم المتحضر من المتحجر والتقدمي من الرجعي والمتفتح من المنغلق، ويفرق بين المتنور والظلامي والحداثي والبدائي. لماذا في الصين ترتفع نسب الشيخوخة ويعمر الناس طويلا بينما في الدول الاسكندينافية الأمر مختلف تماما، فنجد مثلا دولة كدولة السويد من أقل الدول في العالم اهتماما بالشأن الديني وأكثرها رفاهية وترفا في العيش وتسجل بها معدلات مرتفعة في عدد حالات الانتحار.هناك من سيرجع السبب في هذا التباين إلى أحوال الطقس المختلفة مثلا، ولكن الثقافة الروحية والحفاظ على تراث كونفوشيوس و الحكماء الصينيين وممارسة اليوغا له تأثيره أيضا. إن حضارة بنيت وأسست ولم تجعل من الإنسان بكيانه كله، روحه وعقله وجسده، مركزا لها ومن الرقي به غاية لها ومعيارا تقيس به كل تحركاتها واختراعاتها واكتشافاتها، لن تجر على بني الإنسان إلا الويلات والحروب والمعضلات تلو المعضلات والأمراض تلو الأمراض، ولن تزيدنا إلا دموية الصراعات الدينية والأممية بفعل العولمة المدمرة والرأسمالية الجشعة، وستحل علينا غضب الطبيعة وسخط البيئة. الإنسان في عصر الذرة والقنبلة النووية وعالم الاتصال والتكنولوجيا، يسعى جاهدا ليجعل من نفسه قطعة من الخردة مركبة من مجموعة من قطع الغيار المفككة تباع وتشترى، فأغلب المأكولات والمشروبات التي نتناولها تصنع في المصانع وكل ما نحتاجه للحفاظ على صحتنا ينتج ويصنع كذلك. ولكن لا ننسى أن أمما في التاريخ وحضارات سارت بها الركبان عاشت ما نعيشه اليوم من الفساد الأخلاقي وانحطاط العقل والروح، وان اختلفت الوسائل والأدوات، فكانت الطريفة التي أدتها غالية الثمن ولم تخرج من ذلك إلا بعقول الأفذاذ وأرواح العظام الذين يريدون الخير للبشرية وينشدون سعادتها وهناءها، لأن الروح البشرية إذا ضيق عليها الخناق تثور في وجه المادة وتحدث انقلابا مدويا، والعقل البشري وان طال به الرقاد واستغرق في الغفلة إلا أنه لا يهزم أمام الشهوات والملذات وما إن يحس بالملل حتى يستفيق ويصيح في وجهها، ولا شك أن ذلك ما سيقع تماما في الأجيال التي ستأتي بعدنا إذا استمرت البشرية على حالها وسارت في نفس الطريق التي تسير فيها اليوم.