عبدالباقي خليفة تكتب تونس هذه الأيام تاريخا بحروف من ذهب، تمكن فيها الشعب التونسي من كسر أكبر حلقة في سلسلة الاستبداد التي تلف المنطقة العربية من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها. وذلك بعد بعد عدة أسابيع من التضحيات الجسام التي يبدو أن عدد ضحاياها سبلغون الميآت في حين أنهم يعدون الآن ( يوم السبت 15 يناير) بالعشرات، ( قرابة ميئتي ضحية مع ضحايا سجن المنستير ) . وقد أجبرت الثورة الشعبية التونسية، أقوى رئيس عربي، من حيث حجم القمع المسلط على الشعب، وأقوى جهاز أمني في المنطقة العربية ، مما جعل من العاصمة التونسية، ملتقى دوريا لوزراء الداخلية العرب. وعرفت تونس بأنها بلد القبضة الحديدية، والنظام الذي يعد نموذجا في في استئصال وتحجيم الحركة الإسلامية . ولكن وبعد 23 سنة أجبرت الجماهير الساكنة، التي لم يضع لها بن علي أي حساب، ونظر إليها كجزء من الممتلكات الخاصة ، التي يستطيع الحاكم أن يفعل بها وبدونها ما يريد ويروق له . لكن هذه الجماهير، أجبرته في هبة واحدة خلال فترة حكمه على الفرار كالفأر المذعور، وكان قد مثل عليها دور الأسد طيلة ما يزيد عن العشرييتين. ولحق بن علي، بشاوسيسكو، وهونكير، وميلوشيفيتش، وبينوشيه، وكل الطواغيت التي عرفهم التاريخ الحديث. سقط الطاغية، ولكن الماضي الرهيب لا يزال شبحا مخيفا، يخشى التونسيون وكل الأحرار من عودته في ثوب جديد، وسط تحفز قوى الديكتاتورية الحاكمة ، وربما الجيش بدعم خارجي ولا سيما من فرنسا والقوى الغربية، لابقاء الشعب التونسي والعرب، خارج التاريخ . ولذلك فإن الشعب التونسي مطالب بتقديم المزيد من التضحيات، إذ يبدو أن مهر الحرية لم يدفع كاملا، وأن أخطارإجهاض الثورة لا يزال جاثما وقرني الشيطان بارزتان في شبحه ، لكن الأمل في صمود الشعب لا يزال حيا. المظهروالمخبر.. أيام وساعات الحسم : كان النظام التونسي يسوق لنفسه، في المحافل الدولية بأنه، نظام معتدل، يحارب الإرهاب، ويقف سدا منيعا في وجه التطرف والإرهاب، وأنه يعطي المرأة ( حقوقها ) وله توجهات أوروبية . ويقدم للمنظمات الدولية أرقاما كاذبة عن مستوى النمو، وعن مؤسسات المجتمع المدني، وعن التطور الذي حققه. وفي الداخل كان الفقر يعشش في المناطق الداخلية، ويكبر معه الغضب والحنق على النظام الحاكم ، يزيده اشتعالا تردي أوضاع الحريات، وحقوق الإنسان، واستمرار الحرب على الإسلام وأهله من خلال حملات اضطهاد المحجبات، وسجن وقتل الأحرار من أبناء الحركة الإسلامية ، سواء تحت التعذيب، أو بالموت الممنهج من خلال التسميم الخفي، ومنع الأدوية عن المرضى الذين أصيبوا بأمراض خطيرة داخل السجون . ورافق ذلك فساد ممنهج تمثل في استيلاء أسرة بن علي وأصهاره الطرابلسية على ممتلكات الدولة والتغول على الشعب، وبناء ثروة طائلة من مصادر مشبوهة قانونيا . وأخيرا لم يستطع نظام بن علي أن يستمر في الخداع فسقط في أول اختبار مواجهة مع الشعب، وبدا أنه أكثر هشاشة وبمراحل من نظام المقبور الحبيب بورقيبة الذي سبقه . لقد كانت تونس، مع موعد مع الانتصار، الأكبر في تاريخها، بعد ( الاستقلال ) وهناك خشية من أن يكون الاستقلال الثاني، شبيها بالاستقلال الأول، حيث لم تستقل تونس عن فرنسا تماما، وإنما ظلت في تنورتها، وحديقة خلفية للاحتلال الفرنسي غير المباشر. وهو ما يتوجب رفض إسقاط وصاية مقابل ظهور وصاية جديدة عسكرية كانت أو سياسية . ففي 17 ديسمبر 2010 م بدأ العد التنازلي لنظام بن علي البائد، ومع بزوغ كل فجر جديد، ومع سقوط كل شهيد جديد كانت الثورة تقترب من تحقيق أهدافها، بدأ بخطاب الديكتاتورالمخلوع بن علي الأول، وحتى خطاب رئيس وزرائه محمد الغنوشي، والتي كانت تظهر تطورا في خطاب الهزيمة والفرار والتواري عن الأنظار. من التهديد والترغيب، والوعد والوعيد إلى التبرير والاعتراف بالجرائم التي سموها أخطاءا؟!!! إلى محاولة تحميل أطراف معينة مسؤولية الجرائم ، فأقيل محافظ سيدي بوزيد ، ثم وزير الداخلية والمستشار السياسي للديكتاتور المخلوع ، وعندما لم يجد ذلك نفعا واستمرت الجماهير في المطالبة برحيل الطاغية فر الديكتاتور دون اعلان . وعندما خرجت طائرته من الأجواء التونسية أعلن عن ذهابه وإلى الأبد، تاركا تونس غارقة في دمائها وفي فوضى عملت أجهزته وتعمل على تغذيتها انتقاما من الشعب ومن ثورته في محاولة لتشوييها والقضاء عليها كما حصل في الجزائر وغيرها . سقط الطاغية وبقيت ذيوله : سقط بن علي غير مأسوف عليه، ولم تستطع فلول الوصوليين والانتهازيين حمايته، رغم المحاولات المسرحية لبعض أزلامه الظهور في الشارع، لكن التيار جرفهم فاختفوا بسرعة غير مسبوقة . فالثورة أسست لواقع جديد، ولا مجال للعودة إلى الوراء، ولا مجال لظهور ديكتاتور جديد في تونس، باسم الجيش الذي كان خلف خروج بن علي وإلى الأبد من الحياة السياسية في تونس، ولكن لا يجب أن يظل الجيش يحرك الدمى من خلف الستار، ولا بد أن يعود لثكناته ، ويسلم السلطة للشعب، بعد انتخاب رئيسه وبرلمانه الجديد، بعد التوافق بين مختلف التيارات والأحزاب السياسية على دستور جديد للبلاد يؤسس للحريات والديمقراطية وسلطة الشعب. لقد قضى الجيش على المحاولات الالتفافية للديكتاتورالمخلوع بتنصيب رئيس وزرائه خلفا له بصفة مؤقتة، وأعاد الوضع إلى نصابه، بتسليم رئيس مجلس النواب السلطة المؤقتة، رغم أنه غير منتخب انتخابا حرا ونزيها، ورغم أن مجلس ( الشعب ) لا يمثل الشعب التونسي.وقد جاء تغيير رئيس الوزراء المعين، تحت ضغط الجماهير التي رفضت تنصيب محمد الغنوشي، ولو مؤقتا. وما لم يتم تشكيل حكومة انتقالية من شخصيات محايدة أو من خلال ائتلاف بين مختلف الأحزاب تشرف على وضع الدستور الجديد وعلى تحديد موعد الانتخابات خلال 60 يوما، فهناك مخاوف من ذيول النظام الذي لا يزال موجودا في مفاصل الدولة، أو حتى من الجيش، ومن ثم سرقة ثمار ثورة الشعب التونسي، التي يجب أن تنجح ويحافظ عليها لتدخل التاريخ كأحد أنظف الثورات التي عرفها العالم في العصر الحديث. وقد ناشدت العديد من الشخصيات السياسية المعارضة، مثل رئيس حركة النهضة التونسية ، الشيخ راشد الغنوشي، ورئيس المؤتمر من أجل الجمهورية ، منصف المرزوقي، وزعيم الحزب الاتشراكي التقدمي، أحمد نجيب الشابي، الشعب البقاء في الشارع حتى التأكد من تلبية جميع مطالبه فعليا. انعكاسات الثورة التونسية على الوضع العربي: لا خبر يعلو على أخبار تونس في متابعات الراي العام العربي، وبصفة جزئية العالم ، فالشعوب العربية تنظر باعجاب واكبار، يشبه الذهول والحلم لانجازات الشعب التونسي، الذي واجه بصدور عارية ، رصاص النظام البائد الذي يعد أشد أشد الأنظمة قمعا في المنطقة. وبعد اندلاع الثورة بدأ حقيرا ضعيفا بائسا كما لو كان وهما يسكن قلوب وعقول الناس ويخيفهم فبدأ بتقديم تنازلات متسارعة من اجراءات احداث مواطن عمل إلى الحريات السياسية إلى تخفيض سعر المواد الأساسية ، ولكن الوقت كان قد فات .وقد عمت الكثير من البلدان العربية مثل الاردن وليبيا والمغرب إلى اتخاذ اجراءات بتخفيض الاسعار لتجنب مصير نظام تونس. وكما وصفت الكثير من المصادر فإن ثورة تونس تثير أعصاب الكثير من الأنظمة العربية خوفا من أن تنتقل العدوى إليهم . ويزيد من مخاوف الأنظمة العربية مواجهتهم لمصير نظام تونس السابق، وبن علي شخصيا الذي كان ينظر إليه كأحد أكثر الاستبداديين سيطرة على الأوضاع في البلد الذي يحكمه دون تفويض من الشعب. لا سيما وأن تونس تشبه الكثير من الأنظمة مثل ليبيا، ومصر، والجزائر، والمغرب، والاردن، وغيرها، بل إن أنظمة هذه الدول أكثر هشاشة لو وضعت في اختبار حقيقي كالذي واجهه نظام تونس السابق. خاصة وأن فرنسا التي وقفت إلى جانب بن علي على مدى 23 سنة، رفضت استقباله، كما رفضت ايطاليا، ومالطا، نزول طائرته فوق أراضيها، وظل الساعات الطوال ييبحث عن مأوى حتى وجدها في جدة، وهذه رسالة واضحة للأنظمة العربية ، أن لا عزاء لها في الغرب الذي يدعم ديكتاتوريتها . أما المملكة العربية السعودية التي لجأ إليها ديكتاتور تونس السابق، فقد اشترطت عليه كما هو معلن، أن يكون لاجئا سياسيا، وأن لا يمارس أي نشاط سياسي من فوق أراضيها، وأن لا يجري أي حوارات صحافية ، وذلك حتى لا تثير الشعب التونسي وطلائعه القيادية القادمة. وهو موقف حكيم، فالبقاء للشعوب، ومصير الحكام الرحيل بهذه الطريقة أو تلك، وكفى بالموت واعظا .