يشهد اليمن اليوم ثورة من الثورات القليلة التي حدثت في التاريخ من حيث نضجها وحضارتها والوعي الجمعي الموجود في ساحاتها , وتأتي الثوارات العربية المدهشة , لتري العالم لونا من الثوارات الراقية في مطالبها , السلمية في وسائلها والياتها , والمبدعة في شعاراتها وهتافها , ويأتي هذا الرقي والسلمية في المطالب والوسائل والوصول إلى الأهداف ,في مقابل أنظمة لطالما أذاقتها القمع والظلم والاستبداء , وضيقت الخناق عليها , وحولت حياتها لتكون أشبه بحياة البهائم والحيوانات , وبدلت حرياتها إلى استعباد , والراحة والأمن إلى شقاء وتعاسة وفقر وجهل وتخلف , وضربت أطياف الشعب بعضه ببعض ,, ومع كل هذه المعاملة الوحشية والبوليسية الظالمة , إلا أن ردة فعل الشعوب لم تكون على مبدأ رد العنف بالعنف والقسوة بالقسوة ,, ولكنها أتت لتعلم حكامها وأنظمتها التي طالما أستخفت بها ورأت انها ليست مهيأة للديمقراطية ,, أتت لتتعالي عليهم وتبين مدى رقيها وأخلاقيتها العالية في تعاملها حتى مع من ظلمها , وتعلمهم دروسا في الديمقراطية الحقيقية لا المزيفة , والمدنية الصادقة لا المدعاة. تتميز الثورة اليمنية بكونها الأرقى على الثوارت التي قامت , وذلك لأسباب : *منها أن الشعب اليمني مع ما يغلب عليه من أمية كثير من أفراد شعبه إلا أنه علمنا كيف يكون الوعي السياسي , والوحدة الشعبية , والحرص على الأخوة وعدم الانجرار وراء ردات الفعل الطائشة. *ومنها أنه شعب مسلح ولا يخلو بيت إلا وفيه سلاح , ومع ذلك خرجوا بصدورهم العارية , وأيديهم المتوضئة التي تمد يد الخير والتسامح والوفاء واللحمة الوطنية , رغم المحاولات المستميتة من قبل النظام لجر الثورة إلى الحرب والاحتراب , إلا أن الوعي كان أكثر حضورا , من حماقات هؤلاء الذين راهنوا على حيلهم المجرمة , وأعمالهم الوحشية . * ومنها أن الإصطفاف القبلي كان وما يزال على أشده وقد عانى اليمن وأبنائه كثيرا من هذا الاصطفاف الذي كان يغذيه النظام لإحداث التوازنات وبالتالي بقاءه لفترة أطول , والعجيب أن الثورة وضعت حدا لهذا الإصطفاف المرهق , وجعلت هذا القبلي الذي يخرج ثائر الرأس, منتفخ الأوداج , مشمرا عن كل ثيابه , لا يهدأ له حال حتى يثأر وينال ثأره ,, جعلته يتلقى الرصاص بصدره وهو مرحب بذلك , ويأتيه خبر وفاة قريبه وهو يبارك ذلك من أجل وطنه وبلاده . كل حر نبيل يحرص على استمرار هذا العطاء الخلاق الذي أفرزته الثورات , ويحرص على انسحابه ليكون هو أصل التعامل بين الشعب بعضه ببعض , وبين الحكومة وشعبها في نظام الحكم القادم , حتى ينعم الإنسان فيها بحقوقه إنسانيته وكرامته وحريته , فيجب أن نتعلم جميعا من أخلاقيات الثوار لنجعلها هي الأخلاق الطبيعية للمرحلة القادمة . ربما هنالك الكثير من مخلفات المرحلة السابقة التي ربما تقلق المراقب وتجعله يتوجس ويخاف على مستقبل الثورة ومكتسباتها , وعلى ألا تذهب دماء الشهداء الزكية , وأرواحهم الطاهرة سدى , فمرحلة ما بعد الثورة ينبغى أن تكون مرحلة انطلاقة إلى البناء بكل جد واجتهاد , واخلاص لما قدمه ابناء اليمن من أجل يمن موحد جديد ومستقبل مشرق. على الثوار اليوم أن يكونو أكثر وعيا من كل مرحلة مضت , وأن يستفيدوا من مرحلة ثورة 62 وألا يقعوا فيما وقعوا فيه من تخبط في البرامج واصطفاف على ولاءات ليست وطنية , والانجرار نحو التبعية الخارجية ,الإقليمية منها والدولية , نريد أن نرى ثمار الثورة ومكتسباتها أمام أعيننا , تتحقق يوما بعد يوم فور انتهاء الثورة ورجيل الرئيس ونظامه , ولا يتم ذلك إلا بإعادة هيكلة شاملة لبرامجنا وأجنداتنا وولاءاتنا وعصبيتنا , وقيمنا , عندما نترك الاصطفاف المذهبي , والتعصب الحزبي , والولاء الخارجي , ليكون عملنا خالصا للوطن ومن أجل تنميته وإعادة المجد له , والكرامة والحرية والرفاه لشعبه , الذي عاني ولازم يعاني الغربة والشتات , والجوع والحرمان , والجهل والتخلف , عندما تقوم الأحزاب على برامج وطنية وتبني ولاءاتها وإخلاصها للوطن وليس لشي أخر , وعندما يكون الولاء القبلي تبعا للولاء للوطن وليس العكس , عندما يكون التعامل بعدل مع جميع أبناء الوطن الجنوبي والشمالي والشرقي والغربي , كلهم يعاملون على أنهم أبناء اليمن ولا فضل لأحد منهم على أحد ولا تميز في المعاملة , عندما يحارب الظلم , ويقام العدل , وينصف للمظلوم ممن ظلمه , وعندما يحارب الفساد في كل مجالات وعلى كافة الأصعدة , وتحارب الرشى والنهب والسلب , وتقام القيم وتعمم في نفوس أبناء الوطن , ويهتم بالتعليم ويصبح أفراد الشعب كله متعلم وواعي , وتكون الأمانة والصدق مبدأ في التعامل , يكون اليمن عندها يمنا جديدا , سينعم الوطن بمكانة إقليمية تليق به , وينعم أبنائه بحياة تليق بمكانة الإنسان اليمني الذي ينبثق من نسله وحضارته الأمم والحضارات.