رئيس الجمهورية قيس سعيّد.. المفسدون... إمّا يعيدون الأموال أو يحاسبهم القضاء    فاتورة استيراد الطاقة لا تطاق .. هل تعود تونس إلى مشروعها النووي؟    في علاقة بالجهاز السرّي واغتيال الشهيد بلعيد... تفاصيل سقوط أخطبوط النهضة    مذكّرات سياسي في «الشروق» (5) وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... يتكلّم الصادقية حاضنة المعرفة والعمل الوطني...!    أخبار المال والأعمال    تقديرات بانحسار عجز الميزانية الى 6.6 ٪ من الناتج المحلي    مع الشروق .. «طوفان الأقصى» أسقط كل الأقنعة.. كشف كل العورات    مع الشروق .. «طوفان الأقصى» أسقط كل الأقنعة.. كشف كل العورات    مزاد دولي يبيع ساعة أغنى راكب ابتلعه الأطلسي مع سفينة تايتنيك    الرابطة الثانية (ج 7 إيابا) قمة مثيرة بين «الجليزة» و«الستيدة»    مانشستر سيتي الانقليزي يهنّئ الترجي والأهلي    ترشح إلى «فينال» رابطة الأبطال وضَمن المونديال ...مبروك للترجي .. مبروك لتونس    فضاءات أغلقت أبوابها وأخرى هجرها روادها .. من يعيد الحياة الى المكتبات العمومية؟    تنديد بمحتوى ''سين وجيم الجنسانية''    ابتكرتها د. إيمان التركي المهري .. تقنية تونسية جديدة لعلاج الذقن المزدوجة    الكاف..جرحى في حادث مرور..    نبيل عمار يؤكد الحرص على مزيد الارتقاء بالتعاون بين تونس والكامرون    استشهاد خمسة فلسطينيين في قصف لطيران الاحتلال لمناطق وسط وجنوب غزة..#خبر_عاجل    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    ماذا في لقاء وزير الخارجية بنظيره الكاميروني؟    طقس الليلة    تسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لدى اليونسكو: آخر الاستعدادات    بطولة الرابطة 1 (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    البطولة الافريقية للجيدو - ميدالية فضية لعلاء الدين شلبي في وزن -73 كلغ    توزر: المخيم الوطني التدريبي للشباب المبادر في مجال الاقتصاد الأخضر مناسبة لمزيد التثقيف حول أهمية المجال في سوق الشغل    نابل: الاحتفاظ بشخص محكوم بالسجن من أجل "الانتماء إلى تنظيم إرهابي" (الحرس الوطني)    أكثر من 20 ألف طالب تونسي يتابعون دراساتهم في الخارج    التوتر يشتد في الجامعات الأمريكية مع توسع حركة الطلاب المؤيدين للفلسطينيين    مواطن يرفع قضية بالصافي سعيد بعد دعوته لتحويل جربة لهونغ كونغ    مدير عام وكالة النهوض بالبحث العلمي: الزراعات المائية حلّ لمجابهة التغيرات المناخية    الجزائر تسجل حضورها ب 25 دار نشر وأكثر من 600 عنوان في معرض تونس الدولي للكتاب    المؤرخ الهادي التيمومي في ندوة بمعرض تونس الدولي للكتاب : هناك من يعطي دروسا في التاريخ وهو لم يدرسه مطلقا    كتيّب يروّج للمثلية الجنسية بمعرض تونس للكتاب؟    وزارة التجارة تتخذ اجراءات في قطاع الأعلاف منها التخفيض في أسعار فيتورة الصوجا المنتجة محليا    الرابطة 1 ( تفادي النزول - الجولة الثامنة): مواجهات صعبة للنادي البنزرتي واتحاد تطاوين    افتتاح المداولات 31 لطب الأسنان تحت شعار طب الأسنان المتقدم من البحث إلى التطبيق    تضم فتيات قاصرات: تفكيك شبكة دعارة تنشط بتونس الكبرى    يلاحق زوجته داخل محل حلاقة ويشوه وجهها    عاجل/ إصابة وزير الاحتلال بن غفير بجروح بعد انقلاب سيارته    القلعة الصغرى : الإحتفاظ بمروج مخدرات    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    هام/ ترسيم هؤولاء الأعوان الوقتيين بهذه الولايات..    تقلص العجز التجاري الشهري    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    عاجل/ تحذير من أمطار وفيضانات ستجتاح هذه الدولة..    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    التشكيلة المنتظرة للترجي في مواجهة صن داونز    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثورة.. من أجل جودة الحياة (تأملات في الجودة والإتقان)
نشر في الحوار نت يوم 18 - 07 - 2011


بسم الله الرحمن الرحيم

يقولون إن الثورة في تونس ومصر وغيرها من بلاد العرب هذه الأيام هي ثورة من أجل الحرية والكرامة والعدالة.. ولا شك في أن هذا صحيح في بعض الجوانب.. ولكن هذه الثورة تمثل أيضا في اعتقادي شكلا من أشكال الرفض والاحتجاج على أداء الطبقة السياسية المهيمنة، في البداية، لتصبح عنوانا لرفض حالة الفوضى التي سادت المجتمع في كثير من مفاصل الدولة.. ولذلك لم تكتف الجماهير الثائرة برفع كلمة (ديجاج Dégage/ارحل) في وجه رأس النظام الفاسد فقط، وإنما رفعتها أيضا في وجه البوليس، وفي وجه عدد كبير من المسئولين والموظفين في البلديات والإدارات العمومية، والمؤسسات الاقتصادية والإعلامية والثقافية والتعليمية، وحتى في المساجد والفرق الرياضية.
رفعت الجماهير شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" بما يعني أن المواطن فقد الثقة تماما في منظومة الدولة، ولم يعد راضيا عن جودة الخدمات التي يتلقاها في حياته اليومية، وأن سكوته في السابق أخفى حالة من الاحتقان الشديد الذي تفجر دفعة واحدة حين توفرت له الفرصة.
لقد وصل المواطن التونسي إلى حالة قصوى من عدم الرضى عن جودة الحياة: لم يعد راضيا عن وجوده في السياق الثقافي ومنظومة القيم الاجتماعية التي يعيش فيها، والتي أصبحت في قناعته مناقضة ومعرقلة لطموحاته وأهدافه والمعايير الأخلاقية والسلوكية التي يتمنى أن تسود في واقعه. وقد تعمقت هذه القناعة من خلال توفر فرص المقارنة بين مستوى جودة الحياة في دول أخرى، ومستوى رداءة الحياة في واقعه، سواء من خلال الفضائيات أو الإنترنت أو الفايسبوك الذي وفر فرصا للتواصل والحوار المباشر بين المواطن في الداخل وآخرين يعيشون في دول أخرى، مما عمق الشعور بالسخط وعدم الرضى عن الواقع الداخلي.
اخترت هذا المدخل لطرح ما أعتبره قضية هامة بالمنظور الاجتماعي وبالمنظور الديني، ولكنها غير حاضرة في حياتنا اليومية بالشكل الكافي الذي يعكس أهميتها، بالرغم من وجودها بالمنظور الاجتماعي في قلب العقد بين الدولة والمواطن وبين المواطنين فيما بينهم، وبالرغم من كونها من المنظور الديني مسألة أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) باستحضارها في كل الأعمال والأقوال والمشاعر بلا استثناء، ونبهنا الله تعالى إلى أنها أساس الحساب والمساءلة عند الوقوف بين يديه يوم القيامة، وتشكّل أيضا شعبة من أعلى مراتب شعب الإيمان، وأعني بذلك: (الإتقان).
قال تعالى في (سورة الملك: الآية 2): ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾.
وفي (سورة الكهف: الآية 7): ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾.
وفي (سورة النحل: الآية 90): ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾.
وروى مسلم في صحيحه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) قال: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ".
وفي حديث آخر صححه الألباني: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ". وقصة هذا الحديث أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) شهد جنازة أحد المسلمين، فوجد بعد دفنه فرجة في قبره لم يقع تسويتها بشكل جيد، فجعل يقول: "سَوُّوا لَحْدَ هَذَا"، حتى ظن الناس أنه سنّة. فالتفت اليهم فقال: "أَمَا إِنَّ هَذَا لاَ يَنْفَعُ المَيِّتَ وَلاَ يَضُرُّهُ، وَلَكِنَّهُ يَسُرُّ عَيْنَ النَّاظِرِ.. وَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ".
هذه عينة من الشواهد القرآنية والنبوية على أهمية الإتقان وضرورته في حياة المسلم. فما هو تعريف الإتقان؟ وفي أي المجالات يتوجب علينا الالتزام به؟ وما هي أسباب عدم الإتقان في أداءنا؟ وكيف نحقق الإتقان في حياتنا اليومية؟


1- تعريف الإتقان:


ورد مفهوم الإتقان في القرآن والسنة بلفظين مختلفين، فتارة يعبر عنه بلفظ (الإتقان) وتارة بلفظ (الإحسان). ويمكن تعريف الإتقان في العمل على أنه أداء لعمل ما تتوفر فيه شروط ثلاثة: أولها: أداء العمل دون خلل فيه. وثانيها: الالتزام بمتطلبات ذلك العمل من التقيد بضوابط وتقنيات معينة ومعروفة مسبقا. وثالثها: أداؤه في الوقت المحدد دون تأخير.. بحيث يتمكن هذا الأداء من تحقيق الحاجات المعلنة والضمنية للمستفيد من العمل والحصول على رضاه.

عندما تتحقق هذه الشروط الثلاثة (عدم وجود خلل، الالتزام بالضوابط والقواعد والتقنيات، الأداء في حدود الوقت المحدد دون تأخير)، وعندما تتحقق الحاجات المعلنة والضمنية للمستفيد من العمل ويتحقق رضاه ويتم إسعاده، عندها يمكن القول بتحقق الجودة، وأن العمل تم إنجازه بإتقان.. بمعنى آخر: الإتقان هو أداء العمل الأداء الصحيح، بالمعايير المطلوبة، وفي المهلة أو التوقيت المحدد، بما يرضي المستفيد ويحقق حاجته مع الاعتماد على تقييم المستفيد في معرفة تحسين الأداء.


2- في أي المجالات يتوجب الإتقان؟

يظن البعض أن قيمة الإتقان والجودة متعلقتان بالأنشطة الاقتصادية والتجارية فقط، وأن المستفيد هو المستهلك. غير أن استقراء عدد كبير من الشواهد القرآنية والنبوية، يبرز الإتقان كمفهوم يجب استحضاره في كل عمل وقول، وسلوك، بل وفي كل شعور وعاطفة. فهو مطلوب في العبادات والمعاملات والأخلاق.. في العلاقة بالله ورسوله، وفي كل الوظائف والأدوار الاجتماعية: في العلاقة بالوالدين والأبناء، وفي العلاقة الزوجية، مع الأصدقاء والجيران، وفي العمل، والعلم والتعلم، والدعوة، والكلام، وفي التحية، وفي كل شيء: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ".
وتنبع قيمة الإتقان من كونه يضمن للمواطنين جودة الحياة، ويطور المجتمع نحو الأفضل، ويجعله أكثر جمالا، وتحقق من خلاله حاجات المواطنين ويتحقق الرضا المتبادل وتتعزز الثقة المتبادلة.
والوقت لا يسمح بذكر كل الأمثلة من القرآن والسنة، لكننا نكتفي ببعضها.
ففي إتقان الوضوء، جاء في الحديث: "أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إِسْبَاغُ الوُضُوءِ" (أي إتقان الوضوء).
وفي إتقان الصلاة: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاَةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلاَّ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ تُؤْتَ كَبِيرَةٌ، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ" (رواه ابن حبان).
وفي إتقان صلاة الجماعة: "أَقِيمُوا الصَّفَّ فِي الصَّلاَةِ. فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلاَةِ" (رواه مسلم).
وفي إتقان صلاة الجمعة: "مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالغُسْلُ أَفْضَلُ" (رواه البخاري).
وفي إتقان الحج: "مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" أخرجه البخاري.
وفي إتقان الصيام: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" رواه أبو داود وصححه الألباني.
وفي إتقان تلاوة القرآن: "المَاهِرُ بِالقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ.. وَالذِي يَقْرَؤُهُ وَيُتَعْتِعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ" (رواه مسلم). "زيّنوا القرآن بأصواتكم" (رواه ابن حبان).
وفي العلاقة بالوالدين، قال تعالى: ﴿وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ (الإسراء 23).
وفي العلاقة الزوجية، تحث النصوص على الإتقان في المعاملة والمشاعر وحتى في العلاقة الجنسية: قال تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ.. ﴾ (البقرة 223).
وفي إتقان تربية الأبناء: "مَنْ عَالَ ثَلاَثَ بَنَاتٍ فَأَدَّبَهُنَّ وَزَوَّجَهُنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ فَلَهُ الجَنَّةُ". (رواه أبو داود).
وفي إتقان الجوار: "أَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكنْ مُؤْمِنًا. وَأَحْسِنْ مُجَاوَرَةَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِمًا" (رواه الألباني في السلسلة الصحيحة).
وفي التحية: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا. إِنَّ اللَّهَ كاَنَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ (النساء 86). وفي الحديث الصحيح الموقوف عن البراء بن عازب: "مِنْ تَمَامِ التَّحِيَّةِ أَنْ تُصَافِحَ أَخَاكَ" (صححه الألباني في صحيح الأدب المفرد). "إِذَا تَصَافَحَ المُسْلِمَانِ لَمْ تُفْرَقْ أَكُفُّهُمَا حَتَى يُغْفَرَ لَهُمَا" (صححه الألباني).
بل وحتى في الحب، جاء في الحديث الصحيح: "ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ".
وروى البخاري عن أحد الصحابة: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك). فقال له عمر: فإنه الآن، والله، لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن يا عمر).
ومن الإتقان تخير أحسن الكلام عند الحديث من الإتقان، بل إن الصمت حين يكون في محله يعتبر نوعا من الإتقان: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" (رواه البخاري). "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).
ومن الإتقان في التدين عموما: تحري الصدق والأمانة والوفاء بالوعود والعهود.. ففي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا. وَإِيَّاكُمْ وَالكَذِبَ، فَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ العَبْدُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابَا".. وفي صحيح الجامع: "ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَقَالَ (إِنِّي مُسْلِمٌ): مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ".
كل هذه الأمثلة وغيرها تدل على عموم ضرورة الإتقان وشمولها لكل أنواع الأعمال والأخلاق والمشاعر الإنسانية: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾. "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ"، وأن الإتقان مسألة جوهرية في المنظور الاجتماعي والمنظور الديني، ولا معنى لتديننا ولا لإيماننا ولا لحياتنا الاجتماعية بدون استحضارها.


3- ما هي أسباب عدم الإتقان في كثير من أعمالنا؟

إذا كانت هذه قيمة الإتقان في الإسلام، فما هي أسباب عدم الإتقان في كثير من أعمالنا، نحن المسلمين؟ الأسباب كثيرة منها:
1. الجو العام الذي لا يدفع للإتقان، بل يدفع على العكس إلى التسيب، فيصبح حالة عامة.
2. ردة الفعل السلبية تجاه عدم إتقان الآخرين.
3. الإهمال والتكاسل.
4. رغبة البعض في تحقيق مكسب مادي عن طريق غش الآخرين، أو اختصار الجهد في أداء العمل.
5. ضعف الوعي الحياتي والوطني والاجتماعي، وعدم تركز قدسية العمل في نفوس الأفراد.
6. نقص المعرفة بقيمة الإتقان في الدنيا وفي الآخرة.
7. غياب الحوافز المشجعة على إتقان العمل (فالمجتمعات التي تهتم بإتقان العمل توجد حوافز لذلك، بحيث أن من يتقن عمله يجد جزاء على ذلك).


4- كيف نستحضر الإتقان ونمارسه في حياتنا اليومية؟

1. استحضار مفهوم الرقابة:
وهذه الرقابة ليست كالرقابة الخانقة والمدمّرة التي تمارسها الأنظمة الاستبدادية ضد مواطنيها، التي يمارسها صاحب العمل على موظفيه بحجة عدم الثقة فيهم، وإنما هي رقابة تحفيزية وتشجيعية تهدف إلى تطوير الكفاءة وتحسين الأداء.. رقابة تعزز الثقة ولا تدمرها.. رقابة نابعة من الحب وليس من الاحتقار والحذر والتوجس.. فالحب كما يعرفّه عالم النفس الأمريكي سكوت بيك في كتابه (Le chemin le moins fréqunté): ليس هو التعلق بالمحبوب لحد الغيرة والخوف من فقدانه، وإنما الحب الحقيقي هو تعهد المحبوب والاهتمام بشئونه والالتزام بمساعدته على النمو وتطوير قدراته وكفاءاته في الحياة.Aimer c'est vouloir faire grandir l'autre.. هذه الرقابة المطلوبة ذات ثلاثة أبعاد:
* استحضار مراقبة الله تعالى، لأنه الذي سيحاسبنا على ذلك يوم القيامة. ففي الحديث المعروف بحديث جبريل (بينما نحن جلوس عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر...)، سأل جبريل: أخبرني عن الإحسان؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ".
* استحضار مراقبة من حولنا من الناس، لأنهم هم الذين يحاسبوننا على ذلك في الدنيا. والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾. ولأنهم أيضا مرآتنا التي نرى بها أخطاءنا فنصلحها كما جاء في الحديث الصحيح: "المُؤْمِنُ مِرْآةُ أَخِيهِ". وقول النبي (ص): "أَمَا إِنَّ هَذَا لاَ يَنْفَعُ المَيِّتَ وَلاَ يَضُرُّهُ، وَلَكِنَّهُ يَسُرُّ عَيْنَ النَّاظِرِ.. وَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ".
* ممارسة الرقابة المتبادلة بين الجميع. ففي الصحيحين:"كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالأَمِيرُ الذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَنْ بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهَا وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهمْ، وَالعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ.. أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ".
2. العمل = قدرة وإرادة:
* اكتساب العلم والخبرة والقدرات والمهارات اللازمة للقيام بالعمل على أحسن وجه.
* التحلي بإرادة وعزيمة قويتين للالتزام بحسن الأداء ومقاومة الجو العام الذي لا يساعد على الإتقان. ففي الحديث الصحيح: "لاَ يَكُنْ أَحَدُكُمْ إِمَّعَةً، يَقُولُ: (أَنَا مَعَ النَّاسِ.. إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنْتُ، وَإِنْ أَسَاؤُوا أَسَأْتُ).. وَلَكِنْ وَطِّنوا أَنْفُسَكُمْ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاؤُوا أَنْ تَجْتَنِبُوا إِسَاءَتَهُمْ".
3. احترام متطلبات الجودة والإتقان:
* قبل البدء في العمل: يجب تحديد متطلبات الأداء الجيد والشروط التي يجب توفرها كي يؤدى العمل على أفضل وجه
* أثناء العمل: يجب استحضار هذه الشروط، وتوفير الوقت والجهد والانتباه الكامل لأداء العمل على ضوء الشروط والمعايير التي تم تحديدها مسبقا.
* بعد الأداء: يجب تقييم العمل وقياس درجة رضى المستفيد، لتحديد ما إذا تم إنجازه على أكمل وجه بما يلبي حاجات المستفيد من العمل ويحقق رضاه، أم توجد حاجة لبعض الجهد الإضافي حتى يصبح على أكمل وجه.. وهذا التقييم يساعد في المستقبل على تحسين الأداء.. نحن بحاجة إلى استحضار (معايير قياس الأداء): ما هي المعايير التي على أساسها يمكن اعتبار الأداء متقنا أو لا.
4. التحلي بالصبر وتحمل الجهد وطول النفس وعدم التضايق عند أداء العمل ﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ﴾ (هود 115)، وتعويد النفس على التلذذ بالإتقان وحسن الأداء: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
5. التناصح والتواصي مع الآخرين بإتقان العمل، حتى يصبح حالة عامة في المحيط كما يقول القرآن الكريم: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾. وهذه هي وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تحقق خيرية المجتمع وبدونها لا تتحقق الخيرية: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾.
6. الإكثار من الدعاء اليومي للذات وللآخرين كي نصبح جميعا من المتقنين كما يعلمنا النبي (صلى الله عليه وسلم ) في دعائه إذا قام للصلاة: "اللَّهُمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ وَالأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ، لاَ يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَهَا لاَ يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ". وفي دعائه الآخر الذي علّمه لأحد الصحابة: "اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم ) وَعِبَادُكَ الصَّالِحُونَ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اسْتَعَاذَكَ مِنْه عَبْدُك َوَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم ) وَعِبَادُكَ الصَّالِحُونَ". وهذه الأدعية تشير لحرص النبي (صلى الله عليه وسلم ) على بلوغ الإتقان في كل شيء.
محمد بن جماعة: تونسي مقيم بكندا
مدير وحدة قياس الأداء بكلية الإدارة (جامعة أوتاوا)
المشرف على موقع التنوع الإسلامي: www.muslimdiversity.net


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.