السينما التونسية حاضرة بفيلمين في الدورة التأسيسية للمهرجان الدولي للفيلم القصير بمدينة تيميمون الجزائرية    بطولة انقلترا: مانشستر سيتي يكتسح ليفربول بثلاثية نظيفة    الصندوق العالمي للطبيعة بشمال إفريقيا يفتح باب التسجيل للمشاركة في النسخة الثانية من برنامج "تبنّى شاطئاً"    مدير "بي بي سي" يقدم استقالته على خلفية فضيحة تزوير خطاب ترامب    هل نقترب من كسر حاجز الزمن؟ العلم يكتشف طريقاً لإبطاء الشيخوخة    بنزرت ...مؤثرون وناشطون وروّاد أعمال .. وفد سياحي متعدّد الجنسيات... في بنزرت    صفاقس : نحو منع مرور الشاحنات الثقيلة بالمنطقة البلدية    نبض الصحافة العربية والدولية ... مخطّط خبيث لاستهداف الجزائر    "التكوين في ميكانيك السيارات الكهربائية والهجينة، التحديات والآفاق" موضوع ندوة إقليمية بمركز التكوين والتدريب المهني بالوردانين    حجز أكثر من 14 طنًا من المواد الغذائية الفاسدة خلال الأسبوع الأول من نوفمبر    ساحة العملة بالعاصمة .. بؤرة للإهمال والتلوث ... وملاذ للمهمشين    توزر: العمل الفلاحي في الواحات.. مخاطر بالجملة في ظلّ غياب وسائل الحماية ومواصلة الاعتماد على العمل اليدوي    بساحة برشلونة بالعاصمة...يوم مفتوح للتقصّي عن مرض السكري    أندا تمويل توفر قروضا فلاحية بقيمة 40 مليون دينار لتمويل مشاريع فلاحية    العاب التضامن الاسلامي (الرياض 2025): التونسية اريج عقاب تحرز برونزية منافسات الجيدو    أيام قرطاج المسرحية 2025: تنظيم منتدى مسرحي دولي لمناقشة "الفنان المسرحي: زمنه وأعماله"    قابس: حريق بمنزل يودي بحياة امرأة    الليلة: أمطار متفرقة ورعود بأقصى الشمال الغربي والسواحل الشمالية    كاس العالم لاقل من 17 سنة:المنتخب المغربي يحقق أكبر انتصار في تاريخ المسابقة    الانتدابات فى قطاع الصحة لن تمكن من تجاوز اشكالية نقص مهنيي الصحة بتونس ويجب توفر استراتيجية واضحة للقطاع (امين عام التنسيقية الوطنية لاطارات واعوان الصحة)    رئيس الجمهورية: "ستكون تونس في كل شبر منها خضراء من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب"    الجولة 14 من الرابطة الأولى: الترجي يحافظ على الصدارة والهزيمة الأولى للبقلاوة    نهاية دربي العاصمة بالتعادل السلبي    شنيا يصير كان توقفت عن ''الترميش'' لدقيقة؟    عاجل: دولة أوروبية تعلن حظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال دون 15 عامًا    احباط تهريب مبلغ من العملة الاجنبية يعادل 3 ملايين دينار..#خبر_عاجل    عاجل : فرنسا تُعلّق منصة ''شي إن''    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    جندوبة: الحماية المدنية تصدر بلاغا تحذيريا بسبب التقلّبات المناخية    تونس ستطلق مشروع''الحزام الأخضر..شنيا هو؟''    حريق بحافلة تقل مشجعي النادي الإفريقي قبل الدربي    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    الديربي التونسي اليوم: البث المباشر على هذه القنوات    أعلاها 60 مم: كميات الأمطار المسجلة خلال ال24 ساعة الماضية    المنتخب التونسي تحت 23 عاما يلاقي وديا السعودية وقطر والامارات من 12 الى 18 نوفمبر الجاري    عاجل: النادي الافريقي يصدر هذا البلاغ قبل الدربي بسويعات    ظافر العابدين في الشارقة للكتاب: يجب أن نحس بالآخرين وأن نكتب حكايات قادرة على تجاوز المحلية والظرفية لتحلق عاليا في أقصى بلدان العالم    أول تعليق من القاهرة بعد اختطاف 3 مصريين في مالي    عفاف الهمامي: كبار السن الذين يحافظون بانتظام على التعلمات يكتسبون قدرات ادراكية على المدى الطويل تقيهم من أمراض الخرف والزهايمر    هام: مرض خطير يصيب القطط...ما يجب معرفته للحفاظ على صحة صغار القطط    تحذير من تسونامي في اليابان بعد زلزال بقوة 6.7 درجة    عاجل-أمريكا: رفض منح ال Visaللأشخاص الذين يعانون من هذه الأمراض    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    الشرع في واشنطن.. أول زيارة لرئيس سوري منذ 1946    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    رأس جدير: إحباط تهريب عملة أجنبية بقيمة تفوق 3 ملايين دينار    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    تقرير البنك المركزي: تطور القروض البنكية بنسق اقل من نمو النشاط الاقتصادي    منوبة: الكشف عن مسلخ عشوائي بالمرناقية وحجز أكثر من 650 كلغ من الدجاج المذبوح    هذه نسبة التضخم المتوقع بلوغها لكامل سنة 2026..    شنيا حكاية فاتورة معجنات في إزمير الي سومها تجاوز ال7 آلاف ليرة؟    بسمة الهمامي: "عاملات النظافة ينظفن منازل بعض النواب... وعيب اللي قاعد يصير"    الطقس اليوم..أمطار مؤقتا رعدية بهذه المناطق..#خبر_عاجل    تونس: ارتفاع ميزانية وزارة الثقافة...علاش؟    تعرف قدّاش عندنا من مكتبة عمومية في تونس؟    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    مصر.. فتوى بعد اعتداء فرد أمن سعودي على معتمر مصري في المسجد الحرام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثورة.. من أجل جودة الحياة (تأملات في الجودة والإتقان)
نشر في الحوار نت يوم 18 - 07 - 2011


بسم الله الرحمن الرحيم

يقولون إن الثورة في تونس ومصر وغيرها من بلاد العرب هذه الأيام هي ثورة من أجل الحرية والكرامة والعدالة.. ولا شك في أن هذا صحيح في بعض الجوانب.. ولكن هذه الثورة تمثل أيضا في اعتقادي شكلا من أشكال الرفض والاحتجاج على أداء الطبقة السياسية المهيمنة، في البداية، لتصبح عنوانا لرفض حالة الفوضى التي سادت المجتمع في كثير من مفاصل الدولة.. ولذلك لم تكتف الجماهير الثائرة برفع كلمة (ديجاج Dégage/ارحل) في وجه رأس النظام الفاسد فقط، وإنما رفعتها أيضا في وجه البوليس، وفي وجه عدد كبير من المسئولين والموظفين في البلديات والإدارات العمومية، والمؤسسات الاقتصادية والإعلامية والثقافية والتعليمية، وحتى في المساجد والفرق الرياضية.
رفعت الجماهير شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" بما يعني أن المواطن فقد الثقة تماما في منظومة الدولة، ولم يعد راضيا عن جودة الخدمات التي يتلقاها في حياته اليومية، وأن سكوته في السابق أخفى حالة من الاحتقان الشديد الذي تفجر دفعة واحدة حين توفرت له الفرصة.
لقد وصل المواطن التونسي إلى حالة قصوى من عدم الرضى عن جودة الحياة: لم يعد راضيا عن وجوده في السياق الثقافي ومنظومة القيم الاجتماعية التي يعيش فيها، والتي أصبحت في قناعته مناقضة ومعرقلة لطموحاته وأهدافه والمعايير الأخلاقية والسلوكية التي يتمنى أن تسود في واقعه. وقد تعمقت هذه القناعة من خلال توفر فرص المقارنة بين مستوى جودة الحياة في دول أخرى، ومستوى رداءة الحياة في واقعه، سواء من خلال الفضائيات أو الإنترنت أو الفايسبوك الذي وفر فرصا للتواصل والحوار المباشر بين المواطن في الداخل وآخرين يعيشون في دول أخرى، مما عمق الشعور بالسخط وعدم الرضى عن الواقع الداخلي.
اخترت هذا المدخل لطرح ما أعتبره قضية هامة بالمنظور الاجتماعي وبالمنظور الديني، ولكنها غير حاضرة في حياتنا اليومية بالشكل الكافي الذي يعكس أهميتها، بالرغم من وجودها بالمنظور الاجتماعي في قلب العقد بين الدولة والمواطن وبين المواطنين فيما بينهم، وبالرغم من كونها من المنظور الديني مسألة أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) باستحضارها في كل الأعمال والأقوال والمشاعر بلا استثناء، ونبهنا الله تعالى إلى أنها أساس الحساب والمساءلة عند الوقوف بين يديه يوم القيامة، وتشكّل أيضا شعبة من أعلى مراتب شعب الإيمان، وأعني بذلك: (الإتقان).
قال تعالى في (سورة الملك: الآية 2): ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾.
وفي (سورة الكهف: الآية 7): ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾.
وفي (سورة النحل: الآية 90): ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾.
وروى مسلم في صحيحه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) قال: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ".
وفي حديث آخر صححه الألباني: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ". وقصة هذا الحديث أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) شهد جنازة أحد المسلمين، فوجد بعد دفنه فرجة في قبره لم يقع تسويتها بشكل جيد، فجعل يقول: "سَوُّوا لَحْدَ هَذَا"، حتى ظن الناس أنه سنّة. فالتفت اليهم فقال: "أَمَا إِنَّ هَذَا لاَ يَنْفَعُ المَيِّتَ وَلاَ يَضُرُّهُ، وَلَكِنَّهُ يَسُرُّ عَيْنَ النَّاظِرِ.. وَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ".
هذه عينة من الشواهد القرآنية والنبوية على أهمية الإتقان وضرورته في حياة المسلم. فما هو تعريف الإتقان؟ وفي أي المجالات يتوجب علينا الالتزام به؟ وما هي أسباب عدم الإتقان في أداءنا؟ وكيف نحقق الإتقان في حياتنا اليومية؟


1- تعريف الإتقان:


ورد مفهوم الإتقان في القرآن والسنة بلفظين مختلفين، فتارة يعبر عنه بلفظ (الإتقان) وتارة بلفظ (الإحسان). ويمكن تعريف الإتقان في العمل على أنه أداء لعمل ما تتوفر فيه شروط ثلاثة: أولها: أداء العمل دون خلل فيه. وثانيها: الالتزام بمتطلبات ذلك العمل من التقيد بضوابط وتقنيات معينة ومعروفة مسبقا. وثالثها: أداؤه في الوقت المحدد دون تأخير.. بحيث يتمكن هذا الأداء من تحقيق الحاجات المعلنة والضمنية للمستفيد من العمل والحصول على رضاه.

عندما تتحقق هذه الشروط الثلاثة (عدم وجود خلل، الالتزام بالضوابط والقواعد والتقنيات، الأداء في حدود الوقت المحدد دون تأخير)، وعندما تتحقق الحاجات المعلنة والضمنية للمستفيد من العمل ويتحقق رضاه ويتم إسعاده، عندها يمكن القول بتحقق الجودة، وأن العمل تم إنجازه بإتقان.. بمعنى آخر: الإتقان هو أداء العمل الأداء الصحيح، بالمعايير المطلوبة، وفي المهلة أو التوقيت المحدد، بما يرضي المستفيد ويحقق حاجته مع الاعتماد على تقييم المستفيد في معرفة تحسين الأداء.


2- في أي المجالات يتوجب الإتقان؟

يظن البعض أن قيمة الإتقان والجودة متعلقتان بالأنشطة الاقتصادية والتجارية فقط، وأن المستفيد هو المستهلك. غير أن استقراء عدد كبير من الشواهد القرآنية والنبوية، يبرز الإتقان كمفهوم يجب استحضاره في كل عمل وقول، وسلوك، بل وفي كل شعور وعاطفة. فهو مطلوب في العبادات والمعاملات والأخلاق.. في العلاقة بالله ورسوله، وفي كل الوظائف والأدوار الاجتماعية: في العلاقة بالوالدين والأبناء، وفي العلاقة الزوجية، مع الأصدقاء والجيران، وفي العمل، والعلم والتعلم، والدعوة، والكلام، وفي التحية، وفي كل شيء: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ".
وتنبع قيمة الإتقان من كونه يضمن للمواطنين جودة الحياة، ويطور المجتمع نحو الأفضل، ويجعله أكثر جمالا، وتحقق من خلاله حاجات المواطنين ويتحقق الرضا المتبادل وتتعزز الثقة المتبادلة.
والوقت لا يسمح بذكر كل الأمثلة من القرآن والسنة، لكننا نكتفي ببعضها.
ففي إتقان الوضوء، جاء في الحديث: "أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إِسْبَاغُ الوُضُوءِ" (أي إتقان الوضوء).
وفي إتقان الصلاة: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاَةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلاَّ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ تُؤْتَ كَبِيرَةٌ، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ" (رواه ابن حبان).
وفي إتقان صلاة الجماعة: "أَقِيمُوا الصَّفَّ فِي الصَّلاَةِ. فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلاَةِ" (رواه مسلم).
وفي إتقان صلاة الجمعة: "مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالغُسْلُ أَفْضَلُ" (رواه البخاري).
وفي إتقان الحج: "مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" أخرجه البخاري.
وفي إتقان الصيام: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" رواه أبو داود وصححه الألباني.
وفي إتقان تلاوة القرآن: "المَاهِرُ بِالقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ.. وَالذِي يَقْرَؤُهُ وَيُتَعْتِعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ" (رواه مسلم). "زيّنوا القرآن بأصواتكم" (رواه ابن حبان).
وفي العلاقة بالوالدين، قال تعالى: ﴿وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ (الإسراء 23).
وفي العلاقة الزوجية، تحث النصوص على الإتقان في المعاملة والمشاعر وحتى في العلاقة الجنسية: قال تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ.. ﴾ (البقرة 223).
وفي إتقان تربية الأبناء: "مَنْ عَالَ ثَلاَثَ بَنَاتٍ فَأَدَّبَهُنَّ وَزَوَّجَهُنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ فَلَهُ الجَنَّةُ". (رواه أبو داود).
وفي إتقان الجوار: "أَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكنْ مُؤْمِنًا. وَأَحْسِنْ مُجَاوَرَةَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِمًا" (رواه الألباني في السلسلة الصحيحة).
وفي التحية: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا. إِنَّ اللَّهَ كاَنَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ (النساء 86). وفي الحديث الصحيح الموقوف عن البراء بن عازب: "مِنْ تَمَامِ التَّحِيَّةِ أَنْ تُصَافِحَ أَخَاكَ" (صححه الألباني في صحيح الأدب المفرد). "إِذَا تَصَافَحَ المُسْلِمَانِ لَمْ تُفْرَقْ أَكُفُّهُمَا حَتَى يُغْفَرَ لَهُمَا" (صححه الألباني).
بل وحتى في الحب، جاء في الحديث الصحيح: "ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ".
وروى البخاري عن أحد الصحابة: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك). فقال له عمر: فإنه الآن، والله، لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن يا عمر).
ومن الإتقان تخير أحسن الكلام عند الحديث من الإتقان، بل إن الصمت حين يكون في محله يعتبر نوعا من الإتقان: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" (رواه البخاري). "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).
ومن الإتقان في التدين عموما: تحري الصدق والأمانة والوفاء بالوعود والعهود.. ففي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا. وَإِيَّاكُمْ وَالكَذِبَ، فَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ العَبْدُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابَا".. وفي صحيح الجامع: "ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَقَالَ (إِنِّي مُسْلِمٌ): مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ".
كل هذه الأمثلة وغيرها تدل على عموم ضرورة الإتقان وشمولها لكل أنواع الأعمال والأخلاق والمشاعر الإنسانية: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾. "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ"، وأن الإتقان مسألة جوهرية في المنظور الاجتماعي والمنظور الديني، ولا معنى لتديننا ولا لإيماننا ولا لحياتنا الاجتماعية بدون استحضارها.


3- ما هي أسباب عدم الإتقان في كثير من أعمالنا؟

إذا كانت هذه قيمة الإتقان في الإسلام، فما هي أسباب عدم الإتقان في كثير من أعمالنا، نحن المسلمين؟ الأسباب كثيرة منها:
1. الجو العام الذي لا يدفع للإتقان، بل يدفع على العكس إلى التسيب، فيصبح حالة عامة.
2. ردة الفعل السلبية تجاه عدم إتقان الآخرين.
3. الإهمال والتكاسل.
4. رغبة البعض في تحقيق مكسب مادي عن طريق غش الآخرين، أو اختصار الجهد في أداء العمل.
5. ضعف الوعي الحياتي والوطني والاجتماعي، وعدم تركز قدسية العمل في نفوس الأفراد.
6. نقص المعرفة بقيمة الإتقان في الدنيا وفي الآخرة.
7. غياب الحوافز المشجعة على إتقان العمل (فالمجتمعات التي تهتم بإتقان العمل توجد حوافز لذلك، بحيث أن من يتقن عمله يجد جزاء على ذلك).


4- كيف نستحضر الإتقان ونمارسه في حياتنا اليومية؟

1. استحضار مفهوم الرقابة:
وهذه الرقابة ليست كالرقابة الخانقة والمدمّرة التي تمارسها الأنظمة الاستبدادية ضد مواطنيها، التي يمارسها صاحب العمل على موظفيه بحجة عدم الثقة فيهم، وإنما هي رقابة تحفيزية وتشجيعية تهدف إلى تطوير الكفاءة وتحسين الأداء.. رقابة تعزز الثقة ولا تدمرها.. رقابة نابعة من الحب وليس من الاحتقار والحذر والتوجس.. فالحب كما يعرفّه عالم النفس الأمريكي سكوت بيك في كتابه (Le chemin le moins fréqunté): ليس هو التعلق بالمحبوب لحد الغيرة والخوف من فقدانه، وإنما الحب الحقيقي هو تعهد المحبوب والاهتمام بشئونه والالتزام بمساعدته على النمو وتطوير قدراته وكفاءاته في الحياة.Aimer c'est vouloir faire grandir l'autre.. هذه الرقابة المطلوبة ذات ثلاثة أبعاد:
* استحضار مراقبة الله تعالى، لأنه الذي سيحاسبنا على ذلك يوم القيامة. ففي الحديث المعروف بحديث جبريل (بينما نحن جلوس عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر...)، سأل جبريل: أخبرني عن الإحسان؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ".
* استحضار مراقبة من حولنا من الناس، لأنهم هم الذين يحاسبوننا على ذلك في الدنيا. والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾. ولأنهم أيضا مرآتنا التي نرى بها أخطاءنا فنصلحها كما جاء في الحديث الصحيح: "المُؤْمِنُ مِرْآةُ أَخِيهِ". وقول النبي (ص): "أَمَا إِنَّ هَذَا لاَ يَنْفَعُ المَيِّتَ وَلاَ يَضُرُّهُ، وَلَكِنَّهُ يَسُرُّ عَيْنَ النَّاظِرِ.. وَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ".
* ممارسة الرقابة المتبادلة بين الجميع. ففي الصحيحين:"كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالأَمِيرُ الذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَنْ بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهَا وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهمْ، وَالعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ.. أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ".
2. العمل = قدرة وإرادة:
* اكتساب العلم والخبرة والقدرات والمهارات اللازمة للقيام بالعمل على أحسن وجه.
* التحلي بإرادة وعزيمة قويتين للالتزام بحسن الأداء ومقاومة الجو العام الذي لا يساعد على الإتقان. ففي الحديث الصحيح: "لاَ يَكُنْ أَحَدُكُمْ إِمَّعَةً، يَقُولُ: (أَنَا مَعَ النَّاسِ.. إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنْتُ، وَإِنْ أَسَاؤُوا أَسَأْتُ).. وَلَكِنْ وَطِّنوا أَنْفُسَكُمْ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاؤُوا أَنْ تَجْتَنِبُوا إِسَاءَتَهُمْ".
3. احترام متطلبات الجودة والإتقان:
* قبل البدء في العمل: يجب تحديد متطلبات الأداء الجيد والشروط التي يجب توفرها كي يؤدى العمل على أفضل وجه
* أثناء العمل: يجب استحضار هذه الشروط، وتوفير الوقت والجهد والانتباه الكامل لأداء العمل على ضوء الشروط والمعايير التي تم تحديدها مسبقا.
* بعد الأداء: يجب تقييم العمل وقياس درجة رضى المستفيد، لتحديد ما إذا تم إنجازه على أكمل وجه بما يلبي حاجات المستفيد من العمل ويحقق رضاه، أم توجد حاجة لبعض الجهد الإضافي حتى يصبح على أكمل وجه.. وهذا التقييم يساعد في المستقبل على تحسين الأداء.. نحن بحاجة إلى استحضار (معايير قياس الأداء): ما هي المعايير التي على أساسها يمكن اعتبار الأداء متقنا أو لا.
4. التحلي بالصبر وتحمل الجهد وطول النفس وعدم التضايق عند أداء العمل ﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ﴾ (هود 115)، وتعويد النفس على التلذذ بالإتقان وحسن الأداء: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
5. التناصح والتواصي مع الآخرين بإتقان العمل، حتى يصبح حالة عامة في المحيط كما يقول القرآن الكريم: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾. وهذه هي وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تحقق خيرية المجتمع وبدونها لا تتحقق الخيرية: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾.
6. الإكثار من الدعاء اليومي للذات وللآخرين كي نصبح جميعا من المتقنين كما يعلمنا النبي (صلى الله عليه وسلم ) في دعائه إذا قام للصلاة: "اللَّهُمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ وَالأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ، لاَ يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَهَا لاَ يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ". وفي دعائه الآخر الذي علّمه لأحد الصحابة: "اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم ) وَعِبَادُكَ الصَّالِحُونَ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اسْتَعَاذَكَ مِنْه عَبْدُك َوَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم ) وَعِبَادُكَ الصَّالِحُونَ". وهذه الأدعية تشير لحرص النبي (صلى الله عليه وسلم ) على بلوغ الإتقان في كل شيء.
محمد بن جماعة: تونسي مقيم بكندا
مدير وحدة قياس الأداء بكلية الإدارة (جامعة أوتاوا)
المشرف على موقع التنوع الإسلامي: www.muslimdiversity.net


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.